بسم الله الرحمن الرحيم
وأقول (إسماعيل) إن الاختيار في علم القراءة هو تدقيق وانتقاء لأفضل الوجوه وأحسنها (في نظر الإمام القارئ) من وسط وجوه أخرى حسنة وجيدة ، وللإمام أدلته على هذا الترجيح ، ومنها كثرة الرواة لهذا الوجه أو وجاهته في علم العربية أو فائدته ، ولا يعني الاختيار أبدًا أن يختار الإمام وجهًا صحيحًا من وسط وجوه خاطئة . حاشا لله ، فمثلًا : ورد عن هشام في الهمزتين المفتوحتين من كلمة نحو "أأنذرتهم" التسهيل مع الإدخال والتحقيق مع الإدخال وعدمه ، لا يلزم من ذلك تواتر نقله من لدن الرواة المعاصرين أو القدامى عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يدخل هذا في باب الاختيار ، فبعض الشيوخ اختاروا الوجه الأول وآخرون اختاروا الثاني أو الثالث ، ثم اختار الرواة عنهم حتى بلغونا ، وهي في الأصل بدون تفاصيل الطرق وتفريعاتها وتحريراتها ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومن العلماء من بالغ في نفي ثبوت الظواهر اللغوية في أصول القراءات عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كالقاضي أبي بكر ابن العربي – ت 543 هـ - قال : والذي أختاره لنفسي إذا قرأتُ : أكثرَ الحروف المنسوبة إلى قالون ، إلا الهمز ؛ فإني تركته أصلا ، إلا فيما يحيل المعنى أو يلبسه مع غيره ، أو يسقط المعنى بإسقاطه . ولا أكسر باء (بُيوت) ، ولا عين (عُيون) ؛ فإن الخروج من كسر إلى ياء مضمومة لم أقدر عليه ، ولا أكسر ميم (مُتّ) ، وما كنت لأمدّ مدّ حمزة ، ولا أقف على الساكن وقفتَه ، ولا أقرأ بالإدغام الكبير لأبي عمرو ، ولو رواه في تسعين ألفا قراءة ، فكيف في رواية بحرف من سبعة أحرف ! ، ولا أمد ميم ابن كثير ، ولا أضم هاء (عليهِم) و (إليهِم) ، وذلك أخف . وهذه كلها أو أكثرها عندي لغات ، لا قراءات ؛ لأنها لم يثبت منها عن النبي – صلى الله عليه وسلم - شيء ، وإذا تأملتها رأيتَها اختيارات مبنية على معان ولغاتٍ وأقوى القراءات سنداً : قراءةُ عاصم عن ابن عبد الرحمن عن علي ، وعبد الله بن عامر ؛ فما اجتمع رواة هؤلاء عليه فهو ثابت ، وقراءة أبي جعفر ثابتة صحيحة لا كلام فيها . وطلبت أسانيد الباقين فلم أجد فيها مشهوراً ، ورأيتُ أمرها على اللغات وخط المصحف مبنياً .. والله أعلم " . (4)
ولو طالعت كلام الإمام ابن العربي كاملا لعلمت أنه ينحو منحاة من قال بأن الأحرف السبعة كانت في بادئ الأمر ثم أحرق عثمان الأحرف الستة وأبقى حرفًا واحدًا ، ولا جرم أنه قد اجتهد فأخطأ – رحمه الله - ". (5)
قد يخطِر في أذهان البعض سؤال "ولِمَ لا يختار بعض القراء المتقنين وجوهًا عن شيوخهم فتكون اختيارات أدائية خاصةً بهم كما فعل الأئمة الأقدمون ، ما يحرم ذلك ؟!" وأقول – وبالله التوفيق – الاختيار على ضَرْبَين : الضَّرْبُ الأول اختيار تقديم وتحقيق في ذات الرواية أو الطريق ، وهو أن يشتمل الطريق على أكثر من وجه فيحققه القارئ ويختار داخله الوجوه الأقوى فيقدمها عن ما سواها ، وهذا يفعله كثير من حُذَّاق المقرئين ؛ بأن يقدموا وجهًا أدائيًا لكثرة رواته أو لتقديم العلماء من قبلهم له أو لعلة لغوية ظهرت لهم دون غيرهم ، ومثاله : اختلافهم في تقديم ترقيق راء "فِرْقٍ" أو تفخيمها وصلًا ووقفًا ، واختلافهم في الوجه المقدم أداءً لقالون من وجوهه الأربعة ، وربما وجد العالم خروجًا عن الطريق في كتاب الرواية فصححه كما فعل العلامة القاضي وغيره في استدراكهم على الإمام الداني في تفخيم راء "حيران".
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْوَلِيُّ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْكَوَاشِيُّ الْمَوْصِلِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ التَّبْصِرَةِ: "وَكُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَاسْتَقَامَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَوَافَقَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَهُوَ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَلَوْ رَوَاهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مُجْتَمِعِينَ، أَوْ مُتَفَرِّقِينَ فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بُنِيَ قَبُولُ الْقِرَاءَاتِ عَنْ سَبْعَةٍ كَانُوا أَوْ سَبْعَةِ آلَافٍ، وَمَتَى فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَاحْكُمْ بِأَنَّهَا شَاذَّةٌ". انْتَهَى. (6) وقد ثبت عن كثير من الأئمة أنه كانت لهم اختيارات كالإمام ابن جرير الطبري – صاحب التفسير ت 310 هـ رحمه الله – كان له اختيار جمعه من بين 22 قراءة ، قرأ بها وضمنها كتابه القراءات ، بيدَ أن بعض العلماء رأى أن فتح هذا الباب فيه شر على هذه الأمة ، والأولى بنا تنقيح وتصحيح ما ورد إلينا من طرق عن أئمتنا البدور العشرة ورواتهم – رحمهم الله – كما روي عن الإمام أبي بكر بن مجاهد – ت 324 هـ رحمه الله - ، وهو أول من سبع السبعة أنه رفض ذلك لما تقدم ، والله أعلم . (7)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر معجم المعاني الإلكتروني ، كلمة (اختيار) ، ولسان العرب لابن منظور (4/ 266 ، 267) .
(2) التبيان للجزائري 121، كتاب الاختيار في القراءات القرانية وموقف الهذلي منه - د.نصر سعيد ص 15 ، عن بحث ذ.أمين الشنقيطي "حقيقة وقوع الاختيارات من القراء ، توضيحات وردود" منشور بملتقى أهل التفسير .
(3) "كتاب الاختيار في القراءات القرانية وموقف الهذلي منه" - د.نصر سعيد ص 15 : 19 عن المرجع السابق ذ.أمين الشنقيطي .
(4) (العواصم من القواصم) للقاضي أبي بكر ابن العربي ، 356 - 364 ، تحقيق د. عمار الطالبي ، مكتبة دار التراث ، 1417 / 1997م ، ولم أجد هذا الكلام في نسخة محب الدين الخطيب المطبوعة في دار الجيل بلبنان ، ولا المطبوعة في السعودية ، وانظر "تاريخ القراءات في المشرق والمغرب" للدكتور محمد المختار ولد ابَّاه (24) ، وانظر ما في الرابط التالي :
http://vb.tafsir.net/tafsir29972/#.VlN_GF5_nIU
(5) كما ذكر ابن كثير في فضائل القرآن (1/ 134) .
(6) النشر (1/ 43 ، 44) .
(7) وللمزيد انظر مشاركة أستاذنا أبي خالد وليد بن إدريس المنيسي – حفظه الله - :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=22588
ولهذا أعود فأؤكد "لو فهمت قضية الاختيار في علم القراءات لحلت كثير من الإشكالات ، وقد دون فيها أحد الإخوة المجتهدين رسالة ماجستير ونوقشت ونجحت سنة 1421 هـ ، بجامعة أم القرى بالسعودية – كلية الدعوة وأصول الدين – الدراسات العليا – قسم الكتاب والسنة ، ونشرت باسم "الاختيار عند القراء ، مفهومه ، مراحله ، وأثره في القراءات" إعداد الطالب أمين بن إدريس بن عبد الرحمن فلاته" – حفظه الله - ، إشراف فضيلة الشيخ محمد ولد سيدي ولد حبيب – حفظه الله - . وقد اقتطفت معظم هذا الجواب من كتابي هداية اللطيف إلى طرق نافع العشرة من كتاب التعريف (ص 51 : 53) . وبالله التوفيق .
سلسلة الأسئلة والفتاوى العلمية
س 80 : ما معنى الاختيار في القراءة ، وما أثره على القراءات ورواياتها ؟
ج 80 : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فنقول - وبالله التوفيق – : الاختيار في معاجم اللغة يدور بين الاصطفاء والانتقاء (1) ، وفي القرآن الكريم : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ) (القصص 68) . وأما الاختيار في علم القراءة فهو أن يعمِد من كان أهلا للاختيار إلى القراءات المروية فيختار منها ما هو الراجح عنده ويجرد من ذلك طريقا في القراءة على حدة . (2)
يقول د. نصر سعيد: "ومعنى ذلك أن ينتقي من له الاختيار من القراءات المروية ما هو راجح عنده بناء على فكرة معينة سواء ذكرها أم لم يذكرها ثم هو لم يتقيد بمذهب بعينه ولم ينسب الى مصدر بذاته، فأبو القاسم الهذلي مثلا انتقى أصول قراءته ومفرداتها من عدد كبير من شيوخ عصره بلغ عددهم ثلاثمائة وخمسة وخمسين إماما من أرباب الاختيارات الذين بلغوا رتبتها أي السبعة والعشرة فهو لم يترك إماما ...حتى فند قراءته ثم اختار من مجموع هذه القراءات ما رآه راجحا عنده .
- ثم عرض للتوسع في إطلاق الاختيار:
وذكر أنّ توسع العلماء في الإطلاق ...لبيان سبب نسبة القراءة إلى القارئ.. وأنه اختياره وليس اختراعه أو اجتهاده
وذكر أن من التوسع قول الداني في جامع البيان : " إن معنى إضافة الاختيار..إلى من أضيف إليه ..أنه كان أضبط..وإضافة الحروف والقراءات الى أئمة القراء بالأمصار..أي اختار ذلك الإمام (القراءة بذلك الوجه من اللغة) وأثره على غيره..حتى اشتهر به ..وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره..وهي إضافة اختيار ودوام لا إضافة اختراع"
ثم ذكر منهج الاختيار في تاريخ القراءات وأنه نشأ عنه ما عرف بالقراءات السبع أو العشر. وأنه ابن مجاهد قد اختار القراءات السبع للقراء السبعة وارتضى الأكثرون اختياره وإن عارضه بعضهم. (3)
ج 80 : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فنقول - وبالله التوفيق – : الاختيار في معاجم اللغة يدور بين الاصطفاء والانتقاء (1) ، وفي القرآن الكريم : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَيَخْتارُ) (القصص 68) . وأما الاختيار في علم القراءة فهو أن يعمِد من كان أهلا للاختيار إلى القراءات المروية فيختار منها ما هو الراجح عنده ويجرد من ذلك طريقا في القراءة على حدة . (2)
يقول د. نصر سعيد: "ومعنى ذلك أن ينتقي من له الاختيار من القراءات المروية ما هو راجح عنده بناء على فكرة معينة سواء ذكرها أم لم يذكرها ثم هو لم يتقيد بمذهب بعينه ولم ينسب الى مصدر بذاته، فأبو القاسم الهذلي مثلا انتقى أصول قراءته ومفرداتها من عدد كبير من شيوخ عصره بلغ عددهم ثلاثمائة وخمسة وخمسين إماما من أرباب الاختيارات الذين بلغوا رتبتها أي السبعة والعشرة فهو لم يترك إماما ...حتى فند قراءته ثم اختار من مجموع هذه القراءات ما رآه راجحا عنده .
- ثم عرض للتوسع في إطلاق الاختيار:
وذكر أنّ توسع العلماء في الإطلاق ...لبيان سبب نسبة القراءة إلى القارئ.. وأنه اختياره وليس اختراعه أو اجتهاده
وذكر أن من التوسع قول الداني في جامع البيان : " إن معنى إضافة الاختيار..إلى من أضيف إليه ..أنه كان أضبط..وإضافة الحروف والقراءات الى أئمة القراء بالأمصار..أي اختار ذلك الإمام (القراءة بذلك الوجه من اللغة) وأثره على غيره..حتى اشتهر به ..وأخذ عنه، فلذلك أضيف إليه دون غيره..وهي إضافة اختيار ودوام لا إضافة اختراع"
ثم ذكر منهج الاختيار في تاريخ القراءات وأنه نشأ عنه ما عرف بالقراءات السبع أو العشر. وأنه ابن مجاهد قد اختار القراءات السبع للقراء السبعة وارتضى الأكثرون اختياره وإن عارضه بعضهم. (3)
وأقول (إسماعيل) إن الاختيار في علم القراءة هو تدقيق وانتقاء لأفضل الوجوه وأحسنها (في نظر الإمام القارئ) من وسط وجوه أخرى حسنة وجيدة ، وللإمام أدلته على هذا الترجيح ، ومنها كثرة الرواة لهذا الوجه أو وجاهته في علم العربية أو فائدته ، ولا يعني الاختيار أبدًا أن يختار الإمام وجهًا صحيحًا من وسط وجوه خاطئة . حاشا لله ، فمثلًا : ورد عن هشام في الهمزتين المفتوحتين من كلمة نحو "أأنذرتهم" التسهيل مع الإدخال والتحقيق مع الإدخال وعدمه ، لا يلزم من ذلك تواتر نقله من لدن الرواة المعاصرين أو القدامى عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يدخل هذا في باب الاختيار ، فبعض الشيوخ اختاروا الوجه الأول وآخرون اختاروا الثاني أو الثالث ، ثم اختار الرواة عنهم حتى بلغونا ، وهي في الأصل بدون تفاصيل الطرق وتفريعاتها وتحريراتها ثابتة عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومن العلماء من بالغ في نفي ثبوت الظواهر اللغوية في أصول القراءات عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كالقاضي أبي بكر ابن العربي – ت 543 هـ - قال : والذي أختاره لنفسي إذا قرأتُ : أكثرَ الحروف المنسوبة إلى قالون ، إلا الهمز ؛ فإني تركته أصلا ، إلا فيما يحيل المعنى أو يلبسه مع غيره ، أو يسقط المعنى بإسقاطه . ولا أكسر باء (بُيوت) ، ولا عين (عُيون) ؛ فإن الخروج من كسر إلى ياء مضمومة لم أقدر عليه ، ولا أكسر ميم (مُتّ) ، وما كنت لأمدّ مدّ حمزة ، ولا أقف على الساكن وقفتَه ، ولا أقرأ بالإدغام الكبير لأبي عمرو ، ولو رواه في تسعين ألفا قراءة ، فكيف في رواية بحرف من سبعة أحرف ! ، ولا أمد ميم ابن كثير ، ولا أضم هاء (عليهِم) و (إليهِم) ، وذلك أخف . وهذه كلها أو أكثرها عندي لغات ، لا قراءات ؛ لأنها لم يثبت منها عن النبي – صلى الله عليه وسلم - شيء ، وإذا تأملتها رأيتَها اختيارات مبنية على معان ولغاتٍ وأقوى القراءات سنداً : قراءةُ عاصم عن ابن عبد الرحمن عن علي ، وعبد الله بن عامر ؛ فما اجتمع رواة هؤلاء عليه فهو ثابت ، وقراءة أبي جعفر ثابتة صحيحة لا كلام فيها . وطلبت أسانيد الباقين فلم أجد فيها مشهوراً ، ورأيتُ أمرها على اللغات وخط المصحف مبنياً .. والله أعلم " . (4)
ولو طالعت كلام الإمام ابن العربي كاملا لعلمت أنه ينحو منحاة من قال بأن الأحرف السبعة كانت في بادئ الأمر ثم أحرق عثمان الأحرف الستة وأبقى حرفًا واحدًا ، ولا جرم أنه قد اجتهد فأخطأ – رحمه الله - ". (5)
قد يخطِر في أذهان البعض سؤال "ولِمَ لا يختار بعض القراء المتقنين وجوهًا عن شيوخهم فتكون اختيارات أدائية خاصةً بهم كما فعل الأئمة الأقدمون ، ما يحرم ذلك ؟!" وأقول – وبالله التوفيق – الاختيار على ضَرْبَين : الضَّرْبُ الأول اختيار تقديم وتحقيق في ذات الرواية أو الطريق ، وهو أن يشتمل الطريق على أكثر من وجه فيحققه القارئ ويختار داخله الوجوه الأقوى فيقدمها عن ما سواها ، وهذا يفعله كثير من حُذَّاق المقرئين ؛ بأن يقدموا وجهًا أدائيًا لكثرة رواته أو لتقديم العلماء من قبلهم له أو لعلة لغوية ظهرت لهم دون غيرهم ، ومثاله : اختلافهم في تقديم ترقيق راء "فِرْقٍ" أو تفخيمها وصلًا ووقفًا ، واختلافهم في الوجه المقدم أداءً لقالون من وجوهه الأربعة ، وربما وجد العالم خروجًا عن الطريق في كتاب الرواية فصححه كما فعل العلامة القاضي وغيره في استدراكهم على الإمام الداني في تفخيم راء "حيران".
والضرب الثاني اختيار انتقاء ، أن ينتقي القارئ العالم ويصطفي من خلال قراءاته على شيوخه بروايات متعددة أفضل الأوجه ، من حيث جودة اللغة وكثرة الرواة الثقات وموافقة رسم المصحف الذي يقرأ به (كوفي أو شامي أو مكي أو مدني أو بصري) ، وهو ما فعله القدامى من القراء كالكسائي وخلف العاشر وغيرهما ، وقد فتح باب الاختيارات في كل عصر شَيْخُ الْإِسْلَامِ الإمام أَبُو الْفَضْلِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الرَّازِيُّ فقال : " لَوِ اجْتَمَعَ عَدَدٌ لَا يُحْصَى مِنَ الْأُمَّةِ فَاخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرُوفًا بِخِلَافِ صَاحِبِهِ وَجَرَّدَ طَرِيقًا فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى حِدَةٍ فِي أَيِّ مَكَانٍ كَانَ وَفِي أَيِّ أَوَانٍ أَرَادَ بَعْدَ الْأَئِمَّةِ الْمَاضِينَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُخْتَارُ بِمَا اخْتَارَهُ مِنَ الْحُرُوفِ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ، لَمَا كَانَ بِذَلِكَ خَارِجًا عَنِ الْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْمُنَزَّلَةِ، بَلْ فِيهَا مُتَّسَعٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".اهـ.
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْوَلِيُّ مُوَفَّقُ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الْكَوَاشِيُّ الْمَوْصِلِيُّ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِهِ التَّبْصِرَةِ: "وَكُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ وَاسْتَقَامَ وَجْهُهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَوَافَقَ لَفْظُهُ خَطَّ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ فَهُوَ مِنَ السَّبْعَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَلَوْ رَوَاهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مُجْتَمِعِينَ، أَوْ مُتَفَرِّقِينَ فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بُنِيَ قَبُولُ الْقِرَاءَاتِ عَنْ سَبْعَةٍ كَانُوا أَوْ سَبْعَةِ آلَافٍ، وَمَتَى فُقِدَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقِرَاءَةِ فَاحْكُمْ بِأَنَّهَا شَاذَّةٌ". انْتَهَى. (6) وقد ثبت عن كثير من الأئمة أنه كانت لهم اختيارات كالإمام ابن جرير الطبري – صاحب التفسير ت 310 هـ رحمه الله – كان له اختيار جمعه من بين 22 قراءة ، قرأ بها وضمنها كتابه القراءات ، بيدَ أن بعض العلماء رأى أن فتح هذا الباب فيه شر على هذه الأمة ، والأولى بنا تنقيح وتصحيح ما ورد إلينا من طرق عن أئمتنا البدور العشرة ورواتهم – رحمهم الله – كما روي عن الإمام أبي بكر بن مجاهد – ت 324 هـ رحمه الله - ، وهو أول من سبع السبعة أنه رفض ذلك لما تقدم ، والله أعلم . (7)
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر معجم المعاني الإلكتروني ، كلمة (اختيار) ، ولسان العرب لابن منظور (4/ 266 ، 267) .
(2) التبيان للجزائري 121، كتاب الاختيار في القراءات القرانية وموقف الهذلي منه - د.نصر سعيد ص 15 ، عن بحث ذ.أمين الشنقيطي "حقيقة وقوع الاختيارات من القراء ، توضيحات وردود" منشور بملتقى أهل التفسير .
(3) "كتاب الاختيار في القراءات القرانية وموقف الهذلي منه" - د.نصر سعيد ص 15 : 19 عن المرجع السابق ذ.أمين الشنقيطي .
(4) (العواصم من القواصم) للقاضي أبي بكر ابن العربي ، 356 - 364 ، تحقيق د. عمار الطالبي ، مكتبة دار التراث ، 1417 / 1997م ، ولم أجد هذا الكلام في نسخة محب الدين الخطيب المطبوعة في دار الجيل بلبنان ، ولا المطبوعة في السعودية ، وانظر "تاريخ القراءات في المشرق والمغرب" للدكتور محمد المختار ولد ابَّاه (24) ، وانظر ما في الرابط التالي :
http://vb.tafsir.net/tafsir29972/#.VlN_GF5_nIU
(5) كما ذكر ابن كثير في فضائل القرآن (1/ 134) .
(6) النشر (1/ 43 ، 44) .
(7) وللمزيد انظر مشاركة أستاذنا أبي خالد وليد بن إدريس المنيسي – حفظه الله - :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=22588
ولهذا أعود فأؤكد "لو فهمت قضية الاختيار في علم القراءات لحلت كثير من الإشكالات ، وقد دون فيها أحد الإخوة المجتهدين رسالة ماجستير ونوقشت ونجحت سنة 1421 هـ ، بجامعة أم القرى بالسعودية – كلية الدعوة وأصول الدين – الدراسات العليا – قسم الكتاب والسنة ، ونشرت باسم "الاختيار عند القراء ، مفهومه ، مراحله ، وأثره في القراءات" إعداد الطالب أمين بن إدريس بن عبد الرحمن فلاته" – حفظه الله - ، إشراف فضيلة الشيخ محمد ولد سيدي ولد حبيب – حفظه الله - . وقد اقتطفت معظم هذا الجواب من كتابي هداية اللطيف إلى طرق نافع العشرة من كتاب التعريف (ص 51 : 53) . وبالله التوفيق .
ليست هناك تعليقات: