بسم الله الرحمن الرحيم
س 36 : من أخت عراقية: لدى سؤال لو سمحت لأن الأجوبة تضاربت والآراء اختلفت فيما يخص المد العارض للسكون عند الشاطبى هل له وجه القصر أم فقط الطول والتوسط وأين أجد الدليل أكرمكم الله وزادكم علما ونفع بكم ؟ ثم نقلت عن شرح الشاطبية لابن القاصح (ت 801 هـ) "سراج القارئ المبتدي وتذكار المقرئ المنتهي" يفيد تقديم التوسط والإشباع في العارض للسكون وجواز القصر ، وهو مذهب جماعة من المتأخرين .
ج 36 : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فأقول وبالله التوفيق ، للمد العارض للسكون من طريق الشاطبية التوسط والإشباع لقوة العارض ، على تفصيل للقراء ، فأصحاب قصر المنفصل (قالون ودوري أبي عمرو في وجههما الأول والسوسي وجهًا واحدًا وابن كثير) يقفون على العارض للسكون بالتوسط والإشباع فقط ، وأصحاب التوسط (قالون ودوري أبي عمرو في وجههما الثاني وعاصم والكسائي وابن عامر وجهًا واحدًا) يقفون على العارض للسكون بالتوسط والإشباع فقط ، وأما صاحبا الإشباع (ورش وحمزة) فيقفان على العارض للسكون بالإشباع فقط ، وكل ذلك على اختيار الإمام الشاطبي رحمه الله ؛ نظرًا للأسباب التالية :
1- مراتب المدود ، قال العلامة الشيخ السمنودي رحمه الله (1429 هـ) :
أَقْوَى الْمُدُودِ لَازمٌ فَمَا اتَّصَلْ ... فَعَارِضٌ فَذُو انْفِصَالٍ فَبَدَلْ
فالعارض أقوى من المنفصل .
2- قال الإمام الشاطبي رحمه الله (ت 590 هـ) :
176 - وَعَنْ كُلِّهِمْ بِالْمَدِّ مَا قَبْلَ سَاكِنٍ ... وعِنْدَ سُكُونِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ أُصِّلَا
ففي الشطر الأول ((وَعَنْ كُلِّهِمْ بِالْمَدِّ مَا قَبْلَ سَاكِنٍ)) الحديث عن المد اللازم (الإشباع وجهًا واحدًا)
، وفي الشطر الثاني ((وعِنْدَ سُكُونِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ أُصِّلَا)) الحديث عن المد العارض للسكون (التوسط والإشباع)
3- قول كثير من شراح الشاطبية ، قال العلامة أبو شامة (665 هـ) : "قوله: وعند سكون الوقف: يعني إذا كان الساكن بعد حرف المد إنما سكنه الوقف، وقد كان محركا فسكونه عارض فهل يمد لأجله؛ لأنه سكون في الجملة أو لا يمد نظرا إلى عروض السكون ويكتفي بما في حرف المد من المد فيه وجهان وذلك نحو: {الْمَصِيرُ} 1، {وَيُؤْمِنُونَ} 2، {الْأَلْبَابِ} 3.
وذلك أيضا عام لجميع القراء وإنما قال سكون الوقف ولم يقل وعند الوقف احترازا من الروم فلا مد مع الروم ويمد مع الإشمام؛ لأنه ضم الشفتين بعد سكون الحرف.
ثم إذا قيل بالمد فهل هو مد متوسط أو مشبع؟ فيه وجهان، وذكر الشيخ وغيره أن الناظم أشار إلى هذين الوجهين بقوله: وجهان أصلا أي جعلا أصلا يعتمد عليه، وأشار بقوله: أصلا إلى وجه ثالث، وهو الاختصار على ما في حرف المد من المد ولا يظهر لي أنه أراد بالوجهين إلا القصر والمد؛ لأنه ذكر المد لما قبل ساكن ولم يبين طوله ولا توسطه، وقال بعد ذلك: وعند سكون الوقف وجهان أصلا فعلم أنه المد وضده وهو القصر، ولو كان أشار إلى الطول والتوسط لكان ممدودا بلا خلاف وإنما الخلاف في المقدار، والمد لا يفهم من عبارته في نظمه فالظاهر ما ذكرته لكن ما ذكره الشيخ يقويه ما يأتي في شرح البيت الآتي وقوله: أصلا تنبيه على الوجوه الثلاثة، كأنه قال: اختلف في مده وقصره بالنظر إلى أصل الكلام في ذلك، ثم إذا قيل بالمد فهل هو مشبع أو متوسط فيه وجهان، ولا يمتنع أن يكون أصلا رمزا لنافع فهو لفظ موهم كما ذكرناه في: "ووسطه قوم" وقوله قبل ذلك: "وعن كلهم" لا يدفع هذا الإبهام؛ لاحتمال أن يقال الذي هو عن كلهم هو غير سكون الوقف ثم لا فرق في حرف المد بين أن يكون مرسوما نحو: {قَالَ} 4 أو غير مرسوم نحو {الرَّحْمَنَ} 5. أو كان بدلا من همزة نحو: {الذِّئْبُ} 6، {وَيُؤْتِ} 7 والرأس.
واختار أبو الحسن الحصري (القيرواني أبو إسحاق ت 453 هـ) وجه القصر في سكون الوقف؛ لأنه كسائر ما يوقف عليه مما قبله ساكن صحيح نحو: {وَالْعَصْرِ} 8 و {خُسْرٍ} 9 و {الصَّبْرِ} 10.
فما الظن بما قبله حرف مد؟ فقال في قصيدته التي نظمها في قراءة نافع:
وإن يتطرف عند وقفك ساكن ... فقف دون مدٍّ ذاك رأيي بلا فخرِ
فجمعك بين الساكنين يجوز إن ... وقفت وهذا من كلامهم الحرِّ . ا . هـ . (1)
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الموصلي المعروف بشعلة رحمه الله (ت 656 هـ) :
"أي الحرف الذي قبل حرف ساكن مقروء بالمد عن كل القراء نحو دابة وأتحاجّوني ومحياي عند من أسكن ليفصل بالمد بين الساكنين إذ المد يقوم مقام الحركة ، ووجهان أصيلان هما المد والقصر منقولان عنهم في المد الواقع قبل ساكن بسكون الوقف كالمصير ويؤمنون والأوليان ؛ فالمد للفصل بين الساكن وتركه لأن الساكن عارض ، والحركة مَنْوِيّة ، وقيل الوجهان هما المد التام والمتوسط ؛ إذ الفصل يحصل بالتوسط أو للفرق بين ما سكونه عارض أو أصلي ، وقوله عند سكون الوقف احتراز والوقف بالروم ؛ إذ لا مد معه ". (2)
ورجح حجة القراء الشمس ابن الجزري (ت 833 هـ) اختيار المد في العارض للسكون للإمام الشاطبي رحمه الله ؛ فقال في النشر :
"(وَأَمَّا الْمَدُّ لِلسَّاكِنِ الْعَارِضِ) وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْجَائِزُ وَالْعَارِضُ، فَإِنَّ لِأَهْلِ الْأَدَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ فِيهِ ثَلَاثَ مَذَاهِبٍ: (الْأَوَّلُ) الْإِشْبَاعُ كَاللَّازِمِ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ اعْتِدَادًا بِالْعَارِضِ. قَالَ الدَّانِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْقُدَمَاءِ مِنْ مَشْيَخَةِ الْمِصْرِيِّينَ، قَالَ: وَبِذَلِكَ كُنْتُ أَقِفُ عَلَى الْخَافِقَانِيِّ يَعْنِي خَلَفَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيَّ.
(قُلْتُ) : وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّاطِبِيِّ لِجَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي " الْكَافِي "، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ لِأَصْحَابِ التَّحْقِيقِ كَحَمْزَةَ وَوَرْشٍ وَالْأَخْفَشِ، عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عَاصِمٍ وَغَيْرِهِ (الثَّانِي) التَّوَسُّطُ لِمُرَاعَاةِ اجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ وَمُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ عَارِضًا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الشَّذَائِيِّ، وَالْأَهْوَازِيِّ وَابْنِ شَيْطَا وَالشَّاطِبِيِّ أَيْضًا، وَالدَّانِيِّ، قَالَ: وَبِذَلِكَ كُنْتُ أَقِفُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي الْفَتْحِ وَأَبِي الْقَاسِمِ - يَعْنِي عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ خُوَاسْتِيِّ الْفَارِسِيَّ، قَالَ: وَبِهِ حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ شَاكِرٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ - يَعْنِي الشَّذَائِيَّ، قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُهُ. قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ.
(قُلْتُ) : هُوَ الَّذِي فِي " التَّبْصِرَةِ "، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِأَصْحَابِ التَّوَسُّطِ وَتَدْوِيرِ الْقِرَاءَةِ كَالْكِسَائِيِّ وَخَلَفٍ فِي اخْتِيَارِهِ، وَابْنِ عَامِرٍ فِي مَشْهُورِ طُرُقِهِ، وَعَاصِمٍ فِي عَامَّةِ رِوَايَاتِهِ (الثَّالِثُ) الْقَصْرُ ; لِأَنَّ السُّكُونَ عَارِضٌ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْوَقْفِ نَحْوُ: (الْقَدْرِ) (وَالْفَجْرِ) . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْحُصْرِيِّ، قَالَ فِي قَصِيدَتِهِ:
وَإِنْ يَتَطَرَّقْ عِنْدَ وَقْفِكَ سَاكِنٌ ... فَقِفْ دُونَ مَدٍّ ذَاكَ رَأْيِي بِلَا فَخْرِ
فَجَمْعُكَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ يَجُوزُ إِنْ ... وَقَفْتَ وَهَذَا مِنْ كَلَامِهِمُ الْحُرِّ
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْجَعْبَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي " الْكَافِي ". وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ الْأَهْوَازِيُّ وَقَالَ: رَأَيْتُ مِنَ الشُّيُوخِ مَنْ يَكْرَهُ الْمَدَّ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا طَالَبْتَهُ فِي اللَّفْظِ قَالَ فِي الْوَقْفِ بِأَدْنَى تَمْكِينٍ مِنَ اللَّفْظِ، بِخِلَافِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَرْفُضْهُ الشَّاطِبِيُّ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِأَصْحَابِ الْحَدْرِ وَالتَّخْفِيفِ مِمَّنْ قَصَرَ الْمُنْفَصِلَ كَأَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَيَعْقُوبَ، وَقَالُونَ. قَالَ الدَّانِيُّ (ت 444 هـ) :
وَكُنْتُ أَرَى أَبَا عَلِيٍّ شَيْخَنَا يَأْخُذُ بِهِ فِي مَذَاهِبِهِمْ، وَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ.
(قُلْتُ) : الصَّحِيحُ جَوَازُ كُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ لِجَمِيعِ الْقُرَّاءِ؛ لِعُمُومِ قَاعِدَةِ الِاعْتِدَادِ بِالْعَارِضِ وَعَدَمِهِ عَنِ الْجَمِيعِ إِلَّا عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ تَفَاوُتَ الْمَرَاتِبِ فِي اللَّازِمِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ لِكُلِّ ذِي مَرْتَبَةٍ فِي اللَّازِمِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ وَمَا دُونَهَا؛ لِلْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَا يَجُوزُ مَا فَوْقَهَا بِحَالٍ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ آخِرَ الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ". (3)
قال الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله (ت 1403هـ) :
" ثم بين في الشطر الثاني من البيت حكم القسم الثاني فأخبر أن حرف المد الذي يقع بعده سكون عارض عند الوقف فيه وجهان: الأول- المد المشبع المقدر بست حركات والثاني- التوسط المقدر بأربع حركات لجميع القراء أيضا، ولم يصرح بهما الناظم لشهرتهما، ومعنى قوله: (أصلا) جعلا أصلا يعتمد عليه أي اشتهر الوجهان في النقل فجعلا أصلين يعتمد عليهما، وأشار بذلك إلى أن هنالك وجها ثالثا لم يؤصل؛ أي لم يشتهر اشتهار الوجهين السابقين وهو الاقتصار على ما في حرف المد من المد وهو القصر، ولا يقدح في جواز هذا الوقف، أن فيه الجمع بين الساكنين؛ لأن الجمع بين الساكنين مغتفر في الوقف ولأن هذا السكون عارض فلا يعتد به، قال العلماء: ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون حرف المد مرسوما في المصاحف نحو الْعالَمِينَ* الرَّحِيمِ* يُؤْمِنُونَ* مَتابِ، أَوَلَمْ يَكُنْ مرسوما نحو الرَّحْمنِ*، ولا فرق أيضا بين أن يكون أصلا كما ذكر من الأمثلة أو يكون بدلا من همزة كالوقف على الذِّئْبُ*، وَلَمْ يُؤْتَ، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ عند المبدلين، والخلاصة أن حرف المد الذي يقع بعده سكون عارض للوقف يجوز فيه لكل القراء ثلاثة أوجه: القصر، والتوسط، والمد. وهذه الأوجه الثلاثة تجوز أيضا في حرف المد الذي بعده سكون عارض للإدغام كما في الإدغام الكبير للسوسي نحو قالَ لَهُمْ*، الرَّحِيمِ (3) مالِكِ، يَقُولُ رَبَّنا*". (4) وليس معنى ما تقدم أنه يحرم قصر العارض مع توسط المنفصل ، وإنما هي وجوه تناسقية ليس أكثر ، والله أعلم .
(1) (إبراز المعاني ص 121 ، 122) .
(2) (كنز المعاني "شرح شعلة للشاطبية" ص 70 ، 72 ، ومثله قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري رحمه الله (ت 732 هـ) في شرحه المسمى أيضا بكنز المعاني ص 79 من مخطوط سنة 822 هـ من 219 ورقة ، والكتاب مطبوع بحمد الله ، ومن الطريف أن العلامة الشيخ الجمزوري رحمه الله (كان حيا 1213 هـ) أيضا له نظم باسم "كنز المعاني في تحرير حرز الأماني" ، وهو مطبوع ، والحمد لله رب العالمين ") .
(3) (النشر 1 / 335 ، 336) .
(4) (الوافي ص 79 ، 80) .
س 36 : من أخت عراقية: لدى سؤال لو سمحت لأن الأجوبة تضاربت والآراء اختلفت فيما يخص المد العارض للسكون عند الشاطبى هل له وجه القصر أم فقط الطول والتوسط وأين أجد الدليل أكرمكم الله وزادكم علما ونفع بكم ؟ ثم نقلت عن شرح الشاطبية لابن القاصح (ت 801 هـ) "سراج القارئ المبتدي وتذكار المقرئ المنتهي" يفيد تقديم التوسط والإشباع في العارض للسكون وجواز القصر ، وهو مذهب جماعة من المتأخرين .
ج 36 : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فأقول وبالله التوفيق ، للمد العارض للسكون من طريق الشاطبية التوسط والإشباع لقوة العارض ، على تفصيل للقراء ، فأصحاب قصر المنفصل (قالون ودوري أبي عمرو في وجههما الأول والسوسي وجهًا واحدًا وابن كثير) يقفون على العارض للسكون بالتوسط والإشباع فقط ، وأصحاب التوسط (قالون ودوري أبي عمرو في وجههما الثاني وعاصم والكسائي وابن عامر وجهًا واحدًا) يقفون على العارض للسكون بالتوسط والإشباع فقط ، وأما صاحبا الإشباع (ورش وحمزة) فيقفان على العارض للسكون بالإشباع فقط ، وكل ذلك على اختيار الإمام الشاطبي رحمه الله ؛ نظرًا للأسباب التالية :
1- مراتب المدود ، قال العلامة الشيخ السمنودي رحمه الله (1429 هـ) :
أَقْوَى الْمُدُودِ لَازمٌ فَمَا اتَّصَلْ ... فَعَارِضٌ فَذُو انْفِصَالٍ فَبَدَلْ
فالعارض أقوى من المنفصل .
2- قال الإمام الشاطبي رحمه الله (ت 590 هـ) :
176 - وَعَنْ كُلِّهِمْ بِالْمَدِّ مَا قَبْلَ سَاكِنٍ ... وعِنْدَ سُكُونِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ أُصِّلَا
ففي الشطر الأول ((وَعَنْ كُلِّهِمْ بِالْمَدِّ مَا قَبْلَ سَاكِنٍ)) الحديث عن المد اللازم (الإشباع وجهًا واحدًا)
، وفي الشطر الثاني ((وعِنْدَ سُكُونِ الْوَقْفِ وَجْهَانِ أُصِّلَا)) الحديث عن المد العارض للسكون (التوسط والإشباع)
3- قول كثير من شراح الشاطبية ، قال العلامة أبو شامة (665 هـ) : "قوله: وعند سكون الوقف: يعني إذا كان الساكن بعد حرف المد إنما سكنه الوقف، وقد كان محركا فسكونه عارض فهل يمد لأجله؛ لأنه سكون في الجملة أو لا يمد نظرا إلى عروض السكون ويكتفي بما في حرف المد من المد فيه وجهان وذلك نحو: {الْمَصِيرُ} 1، {وَيُؤْمِنُونَ} 2، {الْأَلْبَابِ} 3.
وذلك أيضا عام لجميع القراء وإنما قال سكون الوقف ولم يقل وعند الوقف احترازا من الروم فلا مد مع الروم ويمد مع الإشمام؛ لأنه ضم الشفتين بعد سكون الحرف.
ثم إذا قيل بالمد فهل هو مد متوسط أو مشبع؟ فيه وجهان، وذكر الشيخ وغيره أن الناظم أشار إلى هذين الوجهين بقوله: وجهان أصلا أي جعلا أصلا يعتمد عليه، وأشار بقوله: أصلا إلى وجه ثالث، وهو الاختصار على ما في حرف المد من المد ولا يظهر لي أنه أراد بالوجهين إلا القصر والمد؛ لأنه ذكر المد لما قبل ساكن ولم يبين طوله ولا توسطه، وقال بعد ذلك: وعند سكون الوقف وجهان أصلا فعلم أنه المد وضده وهو القصر، ولو كان أشار إلى الطول والتوسط لكان ممدودا بلا خلاف وإنما الخلاف في المقدار، والمد لا يفهم من عبارته في نظمه فالظاهر ما ذكرته لكن ما ذكره الشيخ يقويه ما يأتي في شرح البيت الآتي وقوله: أصلا تنبيه على الوجوه الثلاثة، كأنه قال: اختلف في مده وقصره بالنظر إلى أصل الكلام في ذلك، ثم إذا قيل بالمد فهل هو مشبع أو متوسط فيه وجهان، ولا يمتنع أن يكون أصلا رمزا لنافع فهو لفظ موهم كما ذكرناه في: "ووسطه قوم" وقوله قبل ذلك: "وعن كلهم" لا يدفع هذا الإبهام؛ لاحتمال أن يقال الذي هو عن كلهم هو غير سكون الوقف ثم لا فرق في حرف المد بين أن يكون مرسوما نحو: {قَالَ} 4 أو غير مرسوم نحو {الرَّحْمَنَ} 5. أو كان بدلا من همزة نحو: {الذِّئْبُ} 6، {وَيُؤْتِ} 7 والرأس.
واختار أبو الحسن الحصري (القيرواني أبو إسحاق ت 453 هـ) وجه القصر في سكون الوقف؛ لأنه كسائر ما يوقف عليه مما قبله ساكن صحيح نحو: {وَالْعَصْرِ} 8 و {خُسْرٍ} 9 و {الصَّبْرِ} 10.
فما الظن بما قبله حرف مد؟ فقال في قصيدته التي نظمها في قراءة نافع:
وإن يتطرف عند وقفك ساكن ... فقف دون مدٍّ ذاك رأيي بلا فخرِ
فجمعك بين الساكنين يجوز إن ... وقفت وهذا من كلامهم الحرِّ . ا . هـ . (1)
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الموصلي المعروف بشعلة رحمه الله (ت 656 هـ) :
"أي الحرف الذي قبل حرف ساكن مقروء بالمد عن كل القراء نحو دابة وأتحاجّوني ومحياي عند من أسكن ليفصل بالمد بين الساكنين إذ المد يقوم مقام الحركة ، ووجهان أصيلان هما المد والقصر منقولان عنهم في المد الواقع قبل ساكن بسكون الوقف كالمصير ويؤمنون والأوليان ؛ فالمد للفصل بين الساكن وتركه لأن الساكن عارض ، والحركة مَنْوِيّة ، وقيل الوجهان هما المد التام والمتوسط ؛ إذ الفصل يحصل بالتوسط أو للفرق بين ما سكونه عارض أو أصلي ، وقوله عند سكون الوقف احتراز والوقف بالروم ؛ إذ لا مد معه ". (2)
ورجح حجة القراء الشمس ابن الجزري (ت 833 هـ) اختيار المد في العارض للسكون للإمام الشاطبي رحمه الله ؛ فقال في النشر :
"(وَأَمَّا الْمَدُّ لِلسَّاكِنِ الْعَارِضِ) وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: الْجَائِزُ وَالْعَارِضُ، فَإِنَّ لِأَهْلِ الْأَدَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ فِيهِ ثَلَاثَ مَذَاهِبٍ: (الْأَوَّلُ) الْإِشْبَاعُ كَاللَّازِمِ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ اعْتِدَادًا بِالْعَارِضِ. قَالَ الدَّانِيُّ: وَهُوَ مَذْهَبُ الْقُدَمَاءِ مِنْ مَشْيَخَةِ الْمِصْرِيِّينَ، قَالَ: وَبِذَلِكَ كُنْتُ أَقِفُ عَلَى الْخَافِقَانِيِّ يَعْنِي خَلَفَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيَّ.
(قُلْتُ) : وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّاطِبِيِّ لِجَمِيعِ الْقُرَّاءِ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي " الْكَافِي "، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ لِأَصْحَابِ التَّحْقِيقِ كَحَمْزَةَ وَوَرْشٍ وَالْأَخْفَشِ، عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ عَاصِمٍ وَغَيْرِهِ (الثَّانِي) التَّوَسُّطُ لِمُرَاعَاةِ اجْتِمَاعِ السَّاكِنَيْنِ وَمُلَاحَظَةِ كَوْنِهِ عَارِضًا. وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُجَاهِدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الشَّذَائِيِّ، وَالْأَهْوَازِيِّ وَابْنِ شَيْطَا وَالشَّاطِبِيِّ أَيْضًا، وَالدَّانِيِّ، قَالَ: وَبِذَلِكَ كُنْتُ أَقِفُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ وَأَبِي الْفَتْحِ وَأَبِي الْقَاسِمِ - يَعْنِي عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ خُوَاسْتِيِّ الْفَارِسِيَّ، قَالَ: وَبِهِ حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ شَاكِرٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ - يَعْنِي الشَّذَائِيَّ، قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُهُ. قَالَ: وَعَلَى ذَلِكَ ابْنُ مُجَاهِدٍ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ.
(قُلْتُ) : هُوَ الَّذِي فِي " التَّبْصِرَةِ "، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِأَصْحَابِ التَّوَسُّطِ وَتَدْوِيرِ الْقِرَاءَةِ كَالْكِسَائِيِّ وَخَلَفٍ فِي اخْتِيَارِهِ، وَابْنِ عَامِرٍ فِي مَشْهُورِ طُرُقِهِ، وَعَاصِمٍ فِي عَامَّةِ رِوَايَاتِهِ (الثَّالِثُ) الْقَصْرُ ; لِأَنَّ السُّكُونَ عَارِضٌ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْوَقْفِ نَحْوُ: (الْقَدْرِ) (وَالْفَجْرِ) . وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْحُصْرِيِّ، قَالَ فِي قَصِيدَتِهِ:
وَإِنْ يَتَطَرَّقْ عِنْدَ وَقْفِكَ سَاكِنٌ ... فَقِفْ دُونَ مَدٍّ ذَاكَ رَأْيِي بِلَا فَخْرِ
فَجَمْعُكَ بَيْنَ السَّاكِنَيْنِ يَجُوزُ إِنْ ... وَقَفْتَ وَهَذَا مِنْ كَلَامِهِمُ الْحُرِّ
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي إِسْحَاقَ الْجَعْبَرِيِّ وَغَيْرِهِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي فِي " الْكَافِي ". وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ الْأَهْوَازِيُّ وَقَالَ: رَأَيْتُ مِنَ الشُّيُوخِ مَنْ يَكْرَهُ الْمَدَّ فِي ذَلِكَ، فَإِذَا طَالَبْتَهُ فِي اللَّفْظِ قَالَ فِي الْوَقْفِ بِأَدْنَى تَمْكِينٍ مِنَ اللَّفْظِ، بِخِلَافِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَرْفُضْهُ الشَّاطِبِيُّ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ لِأَصْحَابِ الْحَدْرِ وَالتَّخْفِيفِ مِمَّنْ قَصَرَ الْمُنْفَصِلَ كَأَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَمْرٍو، وَيَعْقُوبَ، وَقَالُونَ. قَالَ الدَّانِيُّ (ت 444 هـ) :
وَكُنْتُ أَرَى أَبَا عَلِيٍّ شَيْخَنَا يَأْخُذُ بِهِ فِي مَذَاهِبِهِمْ، وَحَدَّثَنِي بِهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرٍ.
(قُلْتُ) : الصَّحِيحُ جَوَازُ كُلٍّ مِنَ الثَّلَاثَةِ لِجَمِيعِ الْقُرَّاءِ؛ لِعُمُومِ قَاعِدَةِ الِاعْتِدَادِ بِالْعَارِضِ وَعَدَمِهِ عَنِ الْجَمِيعِ إِلَّا عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَ تَفَاوُتَ الْمَرَاتِبِ فِي اللَّازِمِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ لِكُلِّ ذِي مَرْتَبَةٍ فِي اللَّازِمِ تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ وَمَا دُونَهَا؛ لِلْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَا يَجُوزُ مَا فَوْقَهَا بِحَالٍ كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ آخِرَ الْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ". (3)
قال الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله (ت 1403هـ) :
" ثم بين في الشطر الثاني من البيت حكم القسم الثاني فأخبر أن حرف المد الذي يقع بعده سكون عارض عند الوقف فيه وجهان: الأول- المد المشبع المقدر بست حركات والثاني- التوسط المقدر بأربع حركات لجميع القراء أيضا، ولم يصرح بهما الناظم لشهرتهما، ومعنى قوله: (أصلا) جعلا أصلا يعتمد عليه أي اشتهر الوجهان في النقل فجعلا أصلين يعتمد عليهما، وأشار بذلك إلى أن هنالك وجها ثالثا لم يؤصل؛ أي لم يشتهر اشتهار الوجهين السابقين وهو الاقتصار على ما في حرف المد من المد وهو القصر، ولا يقدح في جواز هذا الوقف، أن فيه الجمع بين الساكنين؛ لأن الجمع بين الساكنين مغتفر في الوقف ولأن هذا السكون عارض فلا يعتد به، قال العلماء: ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون حرف المد مرسوما في المصاحف نحو الْعالَمِينَ* الرَّحِيمِ* يُؤْمِنُونَ* مَتابِ، أَوَلَمْ يَكُنْ مرسوما نحو الرَّحْمنِ*، ولا فرق أيضا بين أن يكون أصلا كما ذكر من الأمثلة أو يكون بدلا من همزة كالوقف على الذِّئْبُ*، وَلَمْ يُؤْتَ، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ عند المبدلين، والخلاصة أن حرف المد الذي يقع بعده سكون عارض للوقف يجوز فيه لكل القراء ثلاثة أوجه: القصر، والتوسط، والمد. وهذه الأوجه الثلاثة تجوز أيضا في حرف المد الذي بعده سكون عارض للإدغام كما في الإدغام الكبير للسوسي نحو قالَ لَهُمْ*، الرَّحِيمِ (3) مالِكِ، يَقُولُ رَبَّنا*". (4) وليس معنى ما تقدم أنه يحرم قصر العارض مع توسط المنفصل ، وإنما هي وجوه تناسقية ليس أكثر ، والله أعلم .
(1) (إبراز المعاني ص 121 ، 122) .
(2) (كنز المعاني "شرح شعلة للشاطبية" ص 70 ، 72 ، ومثله قال الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الجعبري رحمه الله (ت 732 هـ) في شرحه المسمى أيضا بكنز المعاني ص 79 من مخطوط سنة 822 هـ من 219 ورقة ، والكتاب مطبوع بحمد الله ، ومن الطريف أن العلامة الشيخ الجمزوري رحمه الله (كان حيا 1213 هـ) أيضا له نظم باسم "كنز المعاني في تحرير حرز الأماني" ، وهو مطبوع ، والحمد لله رب العالمين ") .
(3) (النشر 1 / 335 ، 336) .
(4) (الوافي ص 79 ، 80) .
ليست هناك تعليقات: