بسم الله الرحمن الرحيم
س 33 - سألت أخت من المغرب :
هل بعض الخصال الحميدة أو الذميمة
التي تكون في الناس جُبِلُوا
عليها أم اكتسبوها لأسباب معينة
؟
ج 33 : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فأقول - وبالله التوفيق - أفعال العباد على قسمين :
الأول : خصال جبلهم عليها ابتداءً وهي الفطرة مع بعض الخصال الحميدة أو الذميمة ، والثاني : خِلَال يكسبونها (خيرا) أو يكتسبونها (شرًا) ، وهي مقدرة عليهم قبل الخلق ، وتفصيل ذلك :
القسم الأول : خصال جبلهم عليها ابتداءً وهي الفطرة مع بعض الخصال الحميدة أو الذميمة.
خلق الله تعالى كل الناس بلا استثناء على الإسلام كما قال سبحانه : ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) (الروم 30) ، وهي نفسها الفطرة التي تحدث عنها يوسف عليه السلام من داخل سجن العز والشرف حين قال : ((إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)) (38) يوسف .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((كل مولودٍ يُولد على الفِطْرَة)) . البخاري (1358) (2/94) ، ومسلم (2658) (4/2048) بلفظ : «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْمِلَّةِ» . ا هـ .
"والفِطْرَة: الجِبلَّة الَّتِي فطر الله تَعَالَى عَلَيْهَا الخَلْقَ. والفَطْر: مصدر فطر الله عزّ وجلّ الخَلْقَ يفطِره ويفطره فَطْراً، إِذا أنشأه. وتقدمّ أعرابيّان إِلَى حَاكم فِي بِئْر فَقَالَ أَحدهمَا: أَنا فَطَرْتُها، أَي أنشأتها." ا هـ (أبو بكر الأزدي في جمهرة اللغة بتصرف 2/755) .
وما كلف الإسلام تكليفًا إلا وكان موافقًا للفطرة ومتلائما معها ، حتى قال بعض العلماء : لو كانت الفطرة جسدًا لكان الإسلام لها ثوبًا سابغًا لا يزيد ولا ينقص ؛ فالإسلام نفسه بشموله وجماله داعية لاعتناقه وإن أساء إليه بعض أدعيائه .
والفطرة عامرة بالخصال الطيبة كتوحيد الله وحب الحق والعدل والوفاء ، ورفض الشرك وكراهية الباطل والظلم والخيانة ، ومهما أخطأ المؤمن فإن في نفسه أنوارًا فطرية قديمة تذكره بالصواب ، ويشير إلى هذا المعنى حديث وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا وَابِصَةُ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ " . حسن رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في مسنده ( 753) (2/259) ، وأحمد في مسنده (18006) (29/533) وغيرهما .
ومع ذلك فقد جبل الله الإنسان على بعض الخصال التي ينبغي أن يجاهد نفسه للتخلص منها ، وسأذكر بعض الأمثلة :-
1-الظلم والجهل :
قال الله تعالى : ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)) (الأحزاب 72) .
ويجمل بنا أن نذكر في هذا المقام كلام الإمام ابن الجوزي رحمه الله حين عرض لتفسير قوله تعالى : ((إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا)) فقال : فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ظَلوماً لنفسه، غِرّاً بأمر ربِّه، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: ظَلوماً لنفسه، جَهولاً بعاقبة أمره، قاله مجاهد. والثالث: ظَلوماً بمعصية ربِّه، جَهولاً بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب.
وذكر الزجاج في الآية وجهاً يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنَّه موافق للتفسير فقال: إِن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السّموات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأمّا السموات والأرض فقالتا: أَتَيْنا طائِعِينَ «كما في سورة فصلت 11» وأعلَمنا أن من الحجارة ما يَهْبِط من خَشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجُدون لله، فعرَّفنا اللهُ تعالى أنَّ السموات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدَّتها، وأداؤها: طاعة الله وترك معصيته، وكلُّ من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كلُّ من أثم فقد احتمل الإِثم، وكذلك قال الحسن: «وحملها الإِنسان» أي: الكافر والمنافق حَمَلاها، أي: خانا ولم يُطيعا فأمّا من أطاع، فلا يقال: كان ظلوماً جهولاً. (زاد المسير 3/488)
وهذا يشبه قول بعض العلماء بأن لفظ "الإنسان"المذكور بالذم في القرآن هو الكافر مطلقًا، ولكن الأرجح قول الجمهور إنه آدم عليه الصلاة والسلام ، وهذا لا يقلل من اصطفاء آدم عليه السلام وقدره الرفيع عند رب العالمين .- هذا في آية الأحزاب تحديدًا ، ولكل مقام مقال - ؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ " . حسن رواه الترمذي (3076) (5/267) ، وأحمد (2269) (4/128) وغيرهما .
ويقول أبو الطيب : والظلمُ من شِيَمِ النفوسِ فإن تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يظلمُ
2- الجدل .
قال الله تعالى : {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] .
وفي الحديث عن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَيْلَةً، فَقَالَ: «أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]
3- الشح .
قال الله تعالى : ((قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)) (الإسراء 100) ، وقال سبحانه : ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)) [الحشر: 9] ، [التغابن: 16] (آية التغابن القانون الإلهي ، وآية الحشر تطبيق القانون وروحه في حياة الصحابة رضي الله عنه ، وأمثال ذلك في القرآن كثيرة ؛ فالتكاليف الإلهية ممكنة التنفيذ ، والقرآن أَنزَله الله لبشر يعيشون على الأرض ، لا على المريخ).
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا» ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . رواه البخاري (3798) (5/34) ، ومسلم (2054) (3/1624) .
فكأن الشريعة السمحاء تقول للإنسان أيًّا كان إن كنت مجبولا على الكرم ومن سلالة الكرماء كيوسف عليه السلام ، قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «الكَرِيمُ، ابْنُ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ» . رواه البخاري (3390) (4/151) ، فإن كنت كذلك فأخلص النية لله في كرمك حتى لا يؤتى بك يوم القيامة فيقال لك تصدقت ليقال جواد أو كريم ، أما إن كنت مجبولا على الشح فاعمل بحديث الحبيب صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . رواه البخاري (6018) (8/11) ، ومسلم (47) (1/68) .
وتخلق بأخلاق الكرام : فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التَّشَبُّهَ بالكرام فلاحُ
وبوجه عام قال صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» . حسن رواه الترمذي (2499) (4/659) ، وأحمد (13049) (20/344) وغيرهما ، ولفظ أحمد : "فَخَيْرُ أو فأخْيَرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ، لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ " فإذا أدركنا هذا فهمنا القسم الثاني من أفعال العباد ، وهو :
خِلَال يكسبونها (خيرا) أو يكتسبونها (شرًا) ، وهي مقدرة عليهم قبل الخلق .
قال الله تعالى : ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)) (10) الشمس .
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله :
"وفي المراد «بالنّفس» هاهنا قولان: أحدهما: آدم، قاله الحسن. والثاني: جميع النفوس، قاله عطاء. وقد ذكرنا معنى «سوَّاها» في قوله عزّ وجلّ: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. قوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها "الإلهام": إيقاع الشيء في النفس. قال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها قال الزجاج: هذا جواب القسم. والمعنى: لقد أفلح، ولكن اللام حذفت لأن الكلام طال، فصار طوله عوضاً منها. وقال ابن الأنباري: جوابه محذوف. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قد أفلحت نفس زكاها الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، ومقاتل والفراء، والزجاج. والثاني: قد أفلح من زكّى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال، قاله قتادة، وابن قتيبة. ومعنى زَكَّاها: أصلحها وطهّرها من الذنوب. قوله: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها فيه قولان: كالذي قبله.
فإن قلنا: إن الفعل لله، فمعنى «دساها» : خذلها، وأخملها، وأخفى محلها بالكفر والمعصية، ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح.
وإن قلنا: الفعل للإنسان، فمعنى «دساها» : أخفاها بالفجور. قال الفراء: ويروى أن «دَسَّاها» دَسَّسَهَا لأن البخيل يخفي منزله وماله. وقال ابن قتيبة: والمعنى: دسى نفسه، أي: أخفاها بالفجور والمعصية. والأصل من دَسَّسَتُ، فقلبت السين ياءً، كما قالوا: قصَّيت أظفاري، أي: قصصتها. فكأن النَّطِفَ بارتكاب الفواحش دس نفسه، وقمعها، ومُصْطَنِعُ المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبا للشهرة. واللئام تنزل الأطراف لتخفي أماكنها. وقال الزّجّاج: معنى «دسّاها» جعلها قليلة خسيسة." انتهى (زاد المسير 4/451) .
وإنا لنختار بأن النفس وإن كانت مفردًا فالمقصود به جنس النفوس (قول عطاء) ، وأن الإلهام هو إيقاع الشيء في النفس ، قال الأزهري : ((أَلهَمَ الله فلَانا الرُّشد إلهاماً إِذا ألقاه فِي رُوعِه فَتَلقاهُ بفَهْمه)) (تهذيب اللغة 6/169) .
فالله تعالى أوقع كل الأمور خيرا كانت أم شرًا في نفوس العباد ؛ لأنه خالقهم وخالق أعمالهم : ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات 96) إما بطريق مباشر أو غير مباشر ؛ وذلك بإلهام النفسِ التقوى سواء كانت مطمئنة أو لوامة ، وأما ما يوقعه الشيطان والدنيا والهوى في النفس الأمارة بالسوء فمرده إلى تقدير القدير عز وجل ؛ الذي لا يَحْدُث شيء في ملكه إلا بإذنه سبحانه ، وما وقع الإنسان في السوء إلا لأنه غلب جانب الصفات المذمومة السفلية الحيوانية على المحمودة العلوية الملائكية في أصل خلقته ، ومثال ذلك في القرآن الكريم ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) (النساء 79) ، وقال سبحانه : ((ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) (الحج 51 ، آل عمران 182)
ولله در من قال :
ما لِلعباد عليه حقٌ واجبُ *** كلا ولا سعي لديه ضائعُ
إن عُذِّبوا فبعدله أونعموا *** فبفضله وهو الكريم الواسع
ومن الأدب مع الله - وهو خالق كل شيء وبيده مقاليد كل شيء - أن نقول الخير كله بيديك لا الشر ،
قال الله تعالى :
((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ)) (آل عمران 26) ولم يقل والشر ، وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، .." . رواه البخاري (6530) (8/110) ، ومسلم (222) (1/201).
وقال صلوات ربي وسلامه عليه في دعاء استفتاح الصلاة :
((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) . مسلم (771) (1/534) .
قال النووي : "قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ فِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى الْأَدَبِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَدْحِهِ بِأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ مَحَاسِنُ الْأُمُورِ دُونَ مَسَاوِيهَا عَلَى جِهَةِ الْأَدَبِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ فَمِمَّا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ كُلَّ الْمُحْدَثَاتِ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقُهُ سَوَاءٌ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا مَعْنَاهُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ قَالَهُ الخليل بن أحمد والنضر بن شميل واسحق بْنُ رَاهَوَيْهِ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَالثَّانِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنِ الْمُزَنِيِّ وَقَالَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا مَعْنَاهُ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ عَلَى انْفِرَادِهِ لَا يُقَالُ يَا خَالِقَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَيَا رَبَّ الشَّرِّ وَنَحْوُ هَذَا وَإِنْ كَانَ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ الشَّرُّ فِي الْعُمُومِ وَالثَّالِثُ مَعْنَاهُ وَالشَّرُّ لَا يَصْعَدُ إِلَيْكَ إِنَّمَا يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالرَّابِعُ مَعْنَاهُ وَالشَّرُّ لَيْسَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكَ فَإِنَّكَ خَلَقْتَهُ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ وَالْخَامِسُ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ كقولك فلان إلى بني قلان إِذَا كَانَ عِدَادُهُ فِيهِمْ أَوْ صَفُّوهُ إِلَيْهِمْ ." ا هـ (المنهاج للنووي 6/59) .
ولا جبرية في القدر ؛ فإن الله علم أفعال العباد كلها وكتبها وشاءها وخلقها قال سبحانه : ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) (القمر 49) ، وسبق العلم الإلهي لا يعني الجبرية في القدر كما قال الشيخ محمد عبده رحمه الله ، والقدر سر الله في خلقه .
فمن جبله الله على خصال طيبة من خصال الإسلام العظيم فليحمد الله عليها وليسأله المزيد ، ومن وجد غير ذلك - على مثال ما سبق - فينبغي أن يجاهد نفسه لنيل الثواب والوصول إلى المطلوب الشرعي من تحقيق كمال الإيمان الواجب .
ولا يقل أحد إنما هو قدر ابتلاني الله به ؛ فإن الله يبتلي ويعطي القدرة على مقاومة البلاء ، ووسائل دفع البلاء من دعاء ومجاهدة ؛ ليرتقي المؤمن إلى درجات الأصفياء ، وقد قال الله تعالى في آخر الحديث القدسي الطويل :
((... يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ )) . رواه مسلم (2577) (4/1994) .
ومع عصمة الأنبياء رأينا حادثة شق الصدر الشريف وغسل قلبه صلى الله عليه وسلم كما رواها أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قال " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ - يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ - ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ...)) . رواه البخاري (7517) (9/149) ، ومسلم (162) (1/ 146 ، 147) بلفظ آخر : "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ظِئْرَهُ (مرضعته) - فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ "، قَالَ أَنَسٌ: «وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ» .
، وأخيرا وليس آخرا قَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: " إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ (التأني)" . رواه مسلم (18) (1/48) ، ورواه أبو داود (5225) (4/357) بنحوه (خَلَّتَيْنِ بدلا من خصلتين ، وهما بمعنى) وزاد "قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمُ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: «بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا» قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ" . انتهى .
وختامًا نقول : لو كانت نفوس المؤمنين مجبولة على الطاعة ، ونفوس الكافرين مجبولة على المعصية لَمَا كان للتكليف معنى ، وصدق الله عز وجلّ - ومن أصدق من الله قيلا - إذ يقول في كتابه العظيم :
((إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)) (3) الإنسان . وهذه أمثلة قرآنية لتوفيق الله الطائعين جودًا إحسانًا وفضلًا ، ويليها إضلاله الفاسقين جزاءً وعدْلًا .
1- قال الله سبحانه : ((فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)) (النازعات 39) .
ثم قال في صفات المؤمنين المجاهدين أنفسَهُم :
((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) (النازعات 41) .
وفي الخبر «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لَمَّا جِئْتُ بِهِ» . ضعيف ومعناه صحيح. رواه السنة لابن أبي عاصم (15) (1/12) ، وابن بطة في الإبانة الكبرى (279) (1/387) وغيرهما ، وقال النووي في الأربعين : حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
2- قال الله تعالى : ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)) (آل عمران 14) .
ثم ذكر مطالب المؤمنين العليا وثوابهم العظيم فقال سبحانه :
((قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)) (آل عمران 15) .
3- قال الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام :
((وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأنعام 108)
وبعدها بآيات ذكر حال المؤمنين :
(( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأنعام 122) .
4- قال الله عز وجل في سورة النمل :
((إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)) (النمل 4)
ثم قال بعدها بآية :
((وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)) (النمل 6)
5- قال الله تبارك وتعالى في سورة مريم (رضي الله عنها) :
(( قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا)) (مريم 75) ثم قال بعدها في عباده المؤمنين :
((وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا)) (مريم 76)
وصدق من قال (وينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) :
النفسُ تبكي على الدنيا وقد علمت ***** أن السعادة فيها ترك ما فيها
لا دارَ للمرءِ بعد الموت يسكُنها ***** إلا التي كانَ قبل الموتِ بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنُه ***** وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعُها ***** ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطنةً ***** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
كم مدائنٍ في الآفاق قد بنيت ***** أمست خرابا وأفنى الموتُ أهليها
لا تركِنَنَّ إلى الدنيا وما فيها ***** فالموت لا شك يُفنينا ويُفنيها
لكل نفس وان كانت على وجلٍ ***** من المَنِيَّةِ آمالٌ تقويها
المرء يبسطها والدهر يقبضُها ***** والنفس تنشرها والموت يطويها
إن المكارم أخلاقٌ مطهرةٌ ***** الدين أولها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها ***** والجود خامسها والفضل ساديها
والبر سابعها والشكر ثامنها ***** والصبرلى تاسعها واللين باقيها
والنفس تعلم أنى لا أصادقها***** ولست أرشدُ إلا حين أعصيها
واعمل لدار ٍغداً رضوانُ خازنها ***** والجار أحمد (صلى الله عليه وسلم) والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها ***** والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
أنهارها لبنٌ محضٌ ومن عسل ***** والخمر يجري رحيقاً في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفةً ***** تسبحُ الله جهراً في مغانيها
فمن يشتري الدار في الفردوس يعمرها ***** بركعةٍ في ظلام الليل يحييها
نسأل الله التوفيق والإخلاص والقبول ، والله أعلم ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ج 33 : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فأقول - وبالله التوفيق - أفعال العباد على قسمين :
الأول : خصال جبلهم عليها ابتداءً وهي الفطرة مع بعض الخصال الحميدة أو الذميمة ، والثاني : خِلَال يكسبونها (خيرا) أو يكتسبونها (شرًا) ، وهي مقدرة عليهم قبل الخلق ، وتفصيل ذلك :
القسم الأول : خصال جبلهم عليها ابتداءً وهي الفطرة مع بعض الخصال الحميدة أو الذميمة.
خلق الله تعالى كل الناس بلا استثناء على الإسلام كما قال سبحانه : ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) (الروم 30) ، وهي نفسها الفطرة التي تحدث عنها يوسف عليه السلام من داخل سجن العز والشرف حين قال : ((إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ)) (38) يوسف .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((كل مولودٍ يُولد على الفِطْرَة)) . البخاري (1358) (2/94) ، ومسلم (2658) (4/2048) بلفظ : «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَهُوَ عَلَى الْمِلَّةِ» . ا هـ .
"والفِطْرَة: الجِبلَّة الَّتِي فطر الله تَعَالَى عَلَيْهَا الخَلْقَ. والفَطْر: مصدر فطر الله عزّ وجلّ الخَلْقَ يفطِره ويفطره فَطْراً، إِذا أنشأه. وتقدمّ أعرابيّان إِلَى حَاكم فِي بِئْر فَقَالَ أَحدهمَا: أَنا فَطَرْتُها، أَي أنشأتها." ا هـ (أبو بكر الأزدي في جمهرة اللغة بتصرف 2/755) .
وما كلف الإسلام تكليفًا إلا وكان موافقًا للفطرة ومتلائما معها ، حتى قال بعض العلماء : لو كانت الفطرة جسدًا لكان الإسلام لها ثوبًا سابغًا لا يزيد ولا ينقص ؛ فالإسلام نفسه بشموله وجماله داعية لاعتناقه وإن أساء إليه بعض أدعيائه .
والفطرة عامرة بالخصال الطيبة كتوحيد الله وحب الحق والعدل والوفاء ، ورفض الشرك وكراهية الباطل والظلم والخيانة ، ومهما أخطأ المؤمن فإن في نفسه أنوارًا فطرية قديمة تذكره بالصواب ، ويشير إلى هذا المعنى حديث وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا وَابِصَةُ: اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ " . حسن رواه أبو بكر ابن أبي شيبة في مسنده ( 753) (2/259) ، وأحمد في مسنده (18006) (29/533) وغيرهما .
ومع ذلك فقد جبل الله الإنسان على بعض الخصال التي ينبغي أن يجاهد نفسه للتخلص منها ، وسأذكر بعض الأمثلة :-
1-الظلم والجهل :
قال الله تعالى : ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)) (الأحزاب 72) .
ويجمل بنا أن نذكر في هذا المقام كلام الإمام ابن الجوزي رحمه الله حين عرض لتفسير قوله تعالى : ((إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا)) فقال : فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ظَلوماً لنفسه، غِرّاً بأمر ربِّه، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: ظَلوماً لنفسه، جَهولاً بعاقبة أمره، قاله مجاهد. والثالث: ظَلوماً بمعصية ربِّه، جَهولاً بعقاب الأمانة، قاله ابن السائب.
وذكر الزجاج في الآية وجهاً يخالف أكثر الأقوال، وذكر أنَّه موافق للتفسير فقال: إِن الله تعالى ائتمن بني آدم على ما افترضه عليهم من طاعته، وائتمن السّموات والأرض والجبال على طاعته والخضوع له، فأمّا السموات والأرض فقالتا: أَتَيْنا طائِعِينَ «كما في سورة فصلت 11» وأعلَمنا أن من الحجارة ما يَهْبِط من خَشية الله، وأن الشمس والقمر والنجوم والجبال والملائكة يسجُدون لله، فعرَّفنا اللهُ تعالى أنَّ السموات والأرض لم تحتمل الأمانة، لأنها أدَّتها، وأداؤها: طاعة الله وترك معصيته، وكلُّ من خان الأمانة فقد احتملها، وكذلك كلُّ من أثم فقد احتمل الإِثم، وكذلك قال الحسن: «وحملها الإِنسان» أي: الكافر والمنافق حَمَلاها، أي: خانا ولم يُطيعا فأمّا من أطاع، فلا يقال: كان ظلوماً جهولاً. (زاد المسير 3/488)
وهذا يشبه قول بعض العلماء بأن لفظ "الإنسان"المذكور بالذم في القرآن هو الكافر مطلقًا، ولكن الأرجح قول الجمهور إنه آدم عليه الصلاة والسلام ، وهذا لا يقلل من اصطفاء آدم عليه السلام وقدره الرفيع عند رب العالمين .- هذا في آية الأحزاب تحديدًا ، ولكل مقام مقال - ؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُكَ، فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا رَجُلٌ مِنْ آخِرِ الأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ يُقَالُ لَهُ دَاوُدُ فَقَالَ: رَبِّ كَمْ جَعَلْتَ عُمْرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً، قَالَ: أَيْ رَبِّ، زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا قُضِيَ عُمْرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ المَوْتِ، فَقَالَ: أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ قَالَ: فَجَحَدَ آدَمُ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ " . حسن رواه الترمذي (3076) (5/267) ، وأحمد (2269) (4/128) وغيرهما .
ويقول أبو الطيب : والظلمُ من شِيَمِ النفوسِ فإن تَجِدْ ... ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يظلمُ
2- الجدل .
قال الله تعالى : {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] .
وفي الحديث عن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَيْلَةً، فَقَالَ: «أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]
3- الشح .
قال الله تعالى : ((قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)) (الإسراء 100) ، وقال سبحانه : ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)) [الحشر: 9] ، [التغابن: 16] (آية التغابن القانون الإلهي ، وآية الحشر تطبيق القانون وروحه في حياة الصحابة رضي الله عنه ، وأمثال ذلك في القرآن كثيرة ؛ فالتكاليف الإلهية ممكنة التنفيذ ، والقرآن أَنزَله الله لبشر يعيشون على الأرض ، لا على المريخ).
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلَّا المَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا» ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ، فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ، مِنْ فَعَالِكُمَا» فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . رواه البخاري (3798) (5/34) ، ومسلم (2054) (3/1624) .
فكأن الشريعة السمحاء تقول للإنسان أيًّا كان إن كنت مجبولا على الكرم ومن سلالة الكرماء كيوسف عليه السلام ، قال فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «الكَرِيمُ، ابْنُ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ» . رواه البخاري (3390) (4/151) ، فإن كنت كذلك فأخلص النية لله في كرمك حتى لا يؤتى بك يوم القيامة فيقال لك تصدقت ليقال جواد أو كريم ، أما إن كنت مجبولا على الشح فاعمل بحديث الحبيب صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» . رواه البخاري (6018) (8/11) ، ومسلم (47) (1/68) .
وتخلق بأخلاق الكرام : فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التَّشَبُّهَ بالكرام فلاحُ
وبوجه عام قال صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» . حسن رواه الترمذي (2499) (4/659) ، وأحمد (13049) (20/344) وغيرهما ، ولفظ أحمد : "فَخَيْرُ أو فأخْيَرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ مَالٍ، لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ " فإذا أدركنا هذا فهمنا القسم الثاني من أفعال العباد ، وهو :
خِلَال يكسبونها (خيرا) أو يكتسبونها (شرًا) ، وهي مقدرة عليهم قبل الخلق .
قال الله تعالى : ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)) (10) الشمس .
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله :
"وفي المراد «بالنّفس» هاهنا قولان: أحدهما: آدم، قاله الحسن. والثاني: جميع النفوس، قاله عطاء. وقد ذكرنا معنى «سوَّاها» في قوله عزّ وجلّ: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. قوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها "الإلهام": إيقاع الشيء في النفس. قال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها قال الزجاج: هذا جواب القسم. والمعنى: لقد أفلح، ولكن اللام حذفت لأن الكلام طال، فصار طوله عوضاً منها. وقال ابن الأنباري: جوابه محذوف. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قد أفلحت نفس زكاها الله عزّ وجلّ، قاله ابن عباس، ومقاتل والفراء، والزجاج. والثاني: قد أفلح من زكّى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال، قاله قتادة، وابن قتيبة. ومعنى زَكَّاها: أصلحها وطهّرها من الذنوب. قوله: وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها فيه قولان: كالذي قبله.
فإن قلنا: إن الفعل لله، فمعنى «دساها» : خذلها، وأخملها، وأخفى محلها بالكفر والمعصية، ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح.
وإن قلنا: الفعل للإنسان، فمعنى «دساها» : أخفاها بالفجور. قال الفراء: ويروى أن «دَسَّاها» دَسَّسَهَا لأن البخيل يخفي منزله وماله. وقال ابن قتيبة: والمعنى: دسى نفسه، أي: أخفاها بالفجور والمعصية. والأصل من دَسَّسَتُ، فقلبت السين ياءً، كما قالوا: قصَّيت أظفاري، أي: قصصتها. فكأن النَّطِفَ بارتكاب الفواحش دس نفسه، وقمعها، ومُصْطَنِعُ المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت أجواد العرب تنزل الرُّبا للشهرة. واللئام تنزل الأطراف لتخفي أماكنها. وقال الزّجّاج: معنى «دسّاها» جعلها قليلة خسيسة." انتهى (زاد المسير 4/451) .
وإنا لنختار بأن النفس وإن كانت مفردًا فالمقصود به جنس النفوس (قول عطاء) ، وأن الإلهام هو إيقاع الشيء في النفس ، قال الأزهري : ((أَلهَمَ الله فلَانا الرُّشد إلهاماً إِذا ألقاه فِي رُوعِه فَتَلقاهُ بفَهْمه)) (تهذيب اللغة 6/169) .
فالله تعالى أوقع كل الأمور خيرا كانت أم شرًا في نفوس العباد ؛ لأنه خالقهم وخالق أعمالهم : ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات 96) إما بطريق مباشر أو غير مباشر ؛ وذلك بإلهام النفسِ التقوى سواء كانت مطمئنة أو لوامة ، وأما ما يوقعه الشيطان والدنيا والهوى في النفس الأمارة بالسوء فمرده إلى تقدير القدير عز وجل ؛ الذي لا يَحْدُث شيء في ملكه إلا بإذنه سبحانه ، وما وقع الإنسان في السوء إلا لأنه غلب جانب الصفات المذمومة السفلية الحيوانية على المحمودة العلوية الملائكية في أصل خلقته ، ومثال ذلك في القرآن الكريم ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) (النساء 79) ، وقال سبحانه : ((ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) (الحج 51 ، آل عمران 182)
ولله در من قال :
ما لِلعباد عليه حقٌ واجبُ *** كلا ولا سعي لديه ضائعُ
إن عُذِّبوا فبعدله أونعموا *** فبفضله وهو الكريم الواسع
ومن الأدب مع الله - وهو خالق كل شيء وبيده مقاليد كل شيء - أن نقول الخير كله بيديك لا الشر ،
قال الله تعالى :
((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ)) (آل عمران 26) ولم يقل والشر ، وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، .." . رواه البخاري (6530) (8/110) ، ومسلم (222) (1/201).
وقال صلوات ربي وسلامه عليه في دعاء استفتاح الصلاة :
((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) . مسلم (771) (1/534) .
قال النووي : "قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ فِيهِ الْإِرْشَادُ إِلَى الْأَدَبِ فِي الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَدْحِهِ بِأَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ مَحَاسِنُ الْأُمُورِ دُونَ مَسَاوِيهَا عَلَى جِهَةِ الْأَدَبِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ فَمِمَّا يَجِبُ تَأْوِيلُهُ لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ كُلَّ الْمُحْدَثَاتِ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقُهُ سَوَاءٌ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا وَحِينَئِذٍ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا مَعْنَاهُ لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْكَ قَالَهُ الخليل بن أحمد والنضر بن شميل واسحق بْنُ رَاهَوَيْهِ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ وَالْأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَالثَّانِي حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنِ الْمُزَنِيِّ وَقَالَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا مَعْنَاهُ لَا يُضَافُ إِلَيْكَ عَلَى انْفِرَادِهِ لَا يُقَالُ يَا خَالِقَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَيَا رَبَّ الشَّرِّ وَنَحْوُ هَذَا وَإِنْ كَانَ خَالِقَ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ الشَّرُّ فِي الْعُمُومِ وَالثَّالِثُ مَعْنَاهُ وَالشَّرُّ لَا يَصْعَدُ إِلَيْكَ إِنَّمَا يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ وَالرَّابِعُ مَعْنَاهُ وَالشَّرُّ لَيْسَ شَرًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْكَ فَإِنَّكَ خَلَقْتَهُ بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَإِنَّمَا هُوَ شَرٌّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ وَالْخَامِسُ حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ أَنَّهُ كقولك فلان إلى بني قلان إِذَا كَانَ عِدَادُهُ فِيهِمْ أَوْ صَفُّوهُ إِلَيْهِمْ ." ا هـ (المنهاج للنووي 6/59) .
ولا جبرية في القدر ؛ فإن الله علم أفعال العباد كلها وكتبها وشاءها وخلقها قال سبحانه : ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) (القمر 49) ، وسبق العلم الإلهي لا يعني الجبرية في القدر كما قال الشيخ محمد عبده رحمه الله ، والقدر سر الله في خلقه .
فمن جبله الله على خصال طيبة من خصال الإسلام العظيم فليحمد الله عليها وليسأله المزيد ، ومن وجد غير ذلك - على مثال ما سبق - فينبغي أن يجاهد نفسه لنيل الثواب والوصول إلى المطلوب الشرعي من تحقيق كمال الإيمان الواجب .
ولا يقل أحد إنما هو قدر ابتلاني الله به ؛ فإن الله يبتلي ويعطي القدرة على مقاومة البلاء ، ووسائل دفع البلاء من دعاء ومجاهدة ؛ ليرتقي المؤمن إلى درجات الأصفياء ، وقد قال الله تعالى في آخر الحديث القدسي الطويل :
((... يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ )) . رواه مسلم (2577) (4/1994) .
ومع عصمة الأنبياء رأينا حادثة شق الصدر الشريف وغسل قلبه صلى الله عليه وسلم كما رواها أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قال " لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ، أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلاَ تَنَامُ قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ، فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ - يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ - ثُمَّ أَطْبَقَهُ ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ...)) . رواه البخاري (7517) (9/149) ، ومسلم (162) (1/ 146 ، 147) بلفظ آخر : "أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، فَقَالَ: هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لَأَمَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ، وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِي ظِئْرَهُ (مرضعته) - فَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقِعُ اللَّوْنِ "، قَالَ أَنَسٌ: «وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ» .
، وأخيرا وليس آخرا قَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: " إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ (التأني)" . رواه مسلم (18) (1/48) ، ورواه أبو داود (5225) (4/357) بنحوه (خَلَّتَيْنِ بدلا من خصلتين ، وهما بمعنى) وزاد "قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمُ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: «بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا» قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ" . انتهى .
وختامًا نقول : لو كانت نفوس المؤمنين مجبولة على الطاعة ، ونفوس الكافرين مجبولة على المعصية لَمَا كان للتكليف معنى ، وصدق الله عز وجلّ - ومن أصدق من الله قيلا - إذ يقول في كتابه العظيم :
((إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)) (3) الإنسان . وهذه أمثلة قرآنية لتوفيق الله الطائعين جودًا إحسانًا وفضلًا ، ويليها إضلاله الفاسقين جزاءً وعدْلًا .
1- قال الله سبحانه : ((فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)) (النازعات 39) .
ثم قال في صفات المؤمنين المجاهدين أنفسَهُم :
((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) (النازعات 41) .
وفي الخبر «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لَمَّا جِئْتُ بِهِ» . ضعيف ومعناه صحيح. رواه السنة لابن أبي عاصم (15) (1/12) ، وابن بطة في الإبانة الكبرى (279) (1/387) وغيرهما ، وقال النووي في الأربعين : حديث حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
2- قال الله تعالى : ((زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)) (آل عمران 14) .
ثم ذكر مطالب المؤمنين العليا وثوابهم العظيم فقال سبحانه :
((قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)) (آل عمران 15) .
3- قال الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام :
((وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأنعام 108)
وبعدها بآيات ذكر حال المؤمنين :
(( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأنعام 122) .
4- قال الله عز وجل في سورة النمل :
((إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ)) (النمل 4)
ثم قال بعدها بآية :
((وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ)) (النمل 6)
5- قال الله تبارك وتعالى في سورة مريم (رضي الله عنها) :
(( قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا)) (مريم 75) ثم قال بعدها في عباده المؤمنين :
((وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا)) (مريم 76)
وصدق من قال (وينسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه) :
النفسُ تبكي على الدنيا وقد علمت ***** أن السعادة فيها ترك ما فيها
لا دارَ للمرءِ بعد الموت يسكُنها ***** إلا التي كانَ قبل الموتِ بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنُه ***** وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعُها ***** ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطنةً ***** حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
كم مدائنٍ في الآفاق قد بنيت ***** أمست خرابا وأفنى الموتُ أهليها
لا تركِنَنَّ إلى الدنيا وما فيها ***** فالموت لا شك يُفنينا ويُفنيها
لكل نفس وان كانت على وجلٍ ***** من المَنِيَّةِ آمالٌ تقويها
المرء يبسطها والدهر يقبضُها ***** والنفس تنشرها والموت يطويها
إن المكارم أخلاقٌ مطهرةٌ ***** الدين أولها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها ***** والجود خامسها والفضل ساديها
والبر سابعها والشكر ثامنها ***** والصبرلى تاسعها واللين باقيها
والنفس تعلم أنى لا أصادقها***** ولست أرشدُ إلا حين أعصيها
واعمل لدار ٍغداً رضوانُ خازنها ***** والجار أحمد (صلى الله عليه وسلم) والرحمن ناشيها
قصورها ذهب والمسك طينتها ***** والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
أنهارها لبنٌ محضٌ ومن عسل ***** والخمر يجري رحيقاً في مجاريها
والطير تجري على الأغصان عاكفةً ***** تسبحُ الله جهراً في مغانيها
فمن يشتري الدار في الفردوس يعمرها ***** بركعةٍ في ظلام الليل يحييها
نسأل الله التوفيق والإخلاص والقبول ، والله أعلم ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ليست هناك تعليقات: