بسم الله الرحمن الرحيم
س 52 : من أخت مصرية ، تقول : هل الحفلات التي تقام بعد ختم القرآن والحصول على إجازة جائزة ؟ وما مدى صحة الخبر الوارد عن عمر - رضي الله عنه - أنه تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا ؟
ج 52 : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فيقول الله - تعالى - في كتابه العزيز : ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) (يونس 58)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني قريشاً. قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ يعني القرآن.
وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي: دواء لداء الجهل. وَهُدىً أي: بيان من الضلالة.
قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فيه ثمانية أقوال «1» : أحدها: أن فضل الله: الإِسلام، ورحمته: القرآن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة وهلال بن يساف. وروي عن الحسن، ومجاهد في بعض الرواية عنهما، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني: أنّ فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلهم من أهل القرآن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال أبو سعيد الخدري، والحسن في رواية. والثالث: أن فضل الله: العلم، ورحمته: محمّد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والرابع: أن فضل الله: الإِسلام، ورحمته: تزيينه في القلوب، قاله ابن عمر. والخامس: أن فضل الله: القرآن، ورحمته: الإِسلام، قاله الضحاك، وزيد بن أسلم، وابنه، ومقاتل. والسادس: أن فضل الله ورحمته: القرآن، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، واختاره الزجاج. والسابع: أن فضل الله:
القرآن، ورحمته: السُّنَّة، قاله خالد بن معدان. والثامن: فضل الله: التوفيق، ورحمته: العصمة، قاله ابن عيينة.
قوله تعالى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو مجلز، وقتادة، وأبو العالية، ورويس عن يعقوب: «فلتفرحوا» بالتاء. (1) وقرأ الحسن ومعاذ القارئ وأبو المتوكل مثل ذلك، إِلا أنهم كسروا اللام. وقرأ ابن مسعود وأبو عمران: «فبذلك فافرحوا» . قال ابن عباس: بذلك الفضل والرحمة. هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي مما يجمع الكفار من الأموال. وقرأ أبو جعفر وابن عامر ورويس: «تجمعون» بالتاء. وحكى ابن الأنباري أن الباء في قوله: بِفَضْلِ اللَّهِ خبر لاسم مضمر، تأويله: هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك التّطوّل من الله فليفرحوا. (2)
هذا ، وأما عن سؤالكم الأول فأقول - وبالله التوفيق - :
الاحتفال في اللغة الاجتماع ، قال ابن فارس - (ت 395 هـ) رحمه الله - : (حَفَلَ) الْحَاءُ وَالْفَاءُ وَاللَّامُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ. يُقَالُ حَفَلَ النَّاسُ وَاحْتَفَلُوا، إِذَا اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسِهِمْ. وَالْمَجْلِسُ مَحْفِلٌ. وَالْمُحَفَّلَةُ: الشَّاةُ ، إلى أن قال : وَمِنَ الْبَابِ رَجُلٌ ذُو حَفْلَةٍ، إِذَا كَانَ مُبَالِغًا فِيمَا أَخَذَ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَجَمَّعُ لَهُ رَأْيًا وَفِعْلًا. وَقَدِ احْتَفَلَ لَهُمْ، إِذَا أَحْسَنَ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِمْ. وَيُقَالُ احْتَفَلَ الْوَادِي بِالسَّيْلِ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ تَحَفَّلَ، إِذَا تَزَيَّنَ، فَهُوَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَجْمَعُ لِنَفْسِهِ الْمَحَاسِنَ. (*)
وهذا الاحتفال المذكور بختم القرآن الكريم بعضِه أو كُلِّه لا سيما إن حصل المسلم على إجازة بالقرآن الكريم بالأسانيد المتصلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشروع ؛ لما يأتي :
1- تقدم في الآية الأمر بالفرح بفضل الله وبرحمته ، ومن مظاهر الفرح الاحتفال والتوسعة على الأهل ، وقد ثبت عن قتادة التابعي الجليل صاحب أنس - رضي الله عنه - قال: "كان أنس بن مالك - رضي الله عنه - إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا". وعن مجاهد قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن يقولون: تنزل الرحمة" (3) . أ.هـ.
2- كل الأعياد في الإسلام - في أصل فرضيتها وفي مطلق وجودها - تأتي بعد أداء أعمال صالحة ، فالجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس وهو من أفضل الأيام كما في الحديث ، وهو العيد الأسبوعي يأتي بعد أسبوع حافل بالأعمال الصالحة فرائض كانت أم نوافل ، وفي الحديث :«تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» . (5) .
وعيد الفطر يأتي بعد صيام شهر رمضان ، وهو أعظم الشهور على الإطلاق ؛ لنزول القرآن فيه في أفضل ليلة : ليلة القدر ، وتضمنه أفضلَ العبادات : الصلاة والصيام ، وقد فُرِضَتِ الصلاةُ في ليلة السابع والعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة على ما جزم به النووي - (ت 676 هـ) رحمه الله - وابن حزم - (ت 456 هـ) رحمه الله - وغيرهما ، وفُرِضَ الصيامُ في شعبان من السنة الثانية للهجرة كما أن أول عيد للفطر جاء بعد انتصار بدر (17 رمضان - 2 هـ) .
وعيد الأضحى يأتي بعد أداء فريضة الحج في شهر محرم ، وفيه خير يوم طلعت فيه وعليه الشمس : يوم عرفة ، وقد فُرِضَ الحجُّ سنة تسع أو عشر على مذهب الجمهور خلافًا للشافعية القائلين بفرضه في العام السادس من الهجرة ، والله أعلم بالصواب ، كما أن أول عيد للأضحى جاء بعد طاعة إسماعيل لأبيه إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - .
3- ثبت عن جماعة من العلماء احتفالهم بإتمام الأعمال الصالحة النافعة ، من ذلك ما نُقِلَ عن الحافظ شهاب الدين أبي الفضل ، أحمد بن علي بن محمد ، الشهير بابن حجر العسقلاني ، الشافعي - (ت 852هـ) رحمه الله - أنه استغرق في شرح البخاري "فتح الباري" أكثر من خمس وعشرين سنة ، ولما انتهى من تبييضه ومراجعته عمل وليمه عظيمة كبيرة لم يتخلف عنها من وجوه المسلمين إلا النادر بالمكان المسمى التاج والسبع ، في يوم السبت ثاني شعبان سنة اثنين واربعين وثمانمائة وصرف عليها 500 دينار. (6)
وذكر هذه القصة عن ابن حجر صديق حسن خان : وقال: "ولما وقفت على هذه الحكاية عملت وليمة على تفسيري فتح البيان". (7)
4- أعظم دليل على إتقان التلاوة الحصول على إجازة من شيخ متقن بإسناد متصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأعظم شرف أن يكون المسلم حلقة في سلسلة أعلاها رسول الله عن جبريل عن رب العزة - سبحانه وتعالى - وهذا فضل وشرف لا يعرفه في زماننا هذا إلا القليل ؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . (**)
5- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ، ...» . الحديث رواه مسلم (1017) (2/ 704) ، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» مسلم (1893) (3/ 1506) . وفي هذه الاحتفالات تذكير بفضل تلاوة القرآن الكريم وحفظه وتشجيع للطلاب لا سيما إن وعد الشيخ طلابه بجوائر قيمة كرحلات العمرة أو ما شابه ذلك ، وإني لأعرف بعض الشيوخ يقومون بذلك فجزاهم الله خيرا وأبقاهم لخدمة كتابه ونفع بهم الإسلام والمسلمين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما سؤالكم الثاني فأقول - وبالله التوفيق - ليس بدَعًا من الأمر أن ينقل عن بعض الصحابة أنهم تعلموا بعضًا من القرآن في سنوات ؛ لأنهم كانوا يعتنون بالكيف لا الكم ، وقد ثبت " أن عبد الله بنَ عمر - (ت 73 هـ) رضي الله عنه - تعلَّم سورة البقرة في أربع سنين " .(8)
وذلك لأنه بين كيف كانوا يتلقَوْنَ القرآن ؛ فقال – رضي الله عنه - :
"لقد عشنا بُرْهَةً من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها، كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن، ولقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه ، وَيَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ". اهـ. (9) .
وَقَالَ أَبُو عَبدُ الرَّحمَنِ السُلَمِي - (ت 73 هـ تقريبًا) رضي الله عنه - : " حَدَّثَنَا مَن كَانَ يُقرِؤُنَا مِن أَصحَابِ النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُم كَانُوا يَقتَرِؤُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشرَ آيَاتٍ فَلا يَأخُذُونَ فِي العَشرِ الأُخرَى حَتَى يَعلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِن العِلمِ وَالعَمَلِ قَالُوا : فَعَلِمْنَا العِلْمَ وَالعَمَلَ ". (10)
فمقتضى ذلك إما أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - حفظ القرآن الكريم كاملًا بتلقٍ مباشر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الصحابة أثناء حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان تعلُّمُه سورةَ البقرةِ خلال أربع سنين كما في الأثر السابق عنه ، أو أنه بعد إتمامه التعلم في الختمة الأولى شرع في استكشاف بعض ما خفي من معاني سورة البقرة بتوسع ؛ فتمّ له ذلك في أربع سنين ، والله أعلم .
وأما أثر عمر بن الخطاب الفاروق - (ت 13 هـ) رضي الله عنه - أنَّه تعلَّم سورة البقرة في ثنتَيْ عشرةَ سنةً ، ولمَّا ختمها نحر جزورًا فهو أثر ضعيف ، رواه البيهقي في شعب الإيمان (1805) (3/ 346) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 286) ، وضعفه ابن كثير في مسند الفاروق (2/571) قال [ فيه ] أبو بلال الأشعري ضعفه الدارقطني ا هـ ، وأقره على ذلك الذهبي في الميزان (4/ 507) وابن حجر في اللسان (7/ 22) وقال : "مرداس" بن محمد بن الحارث بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن محمد بن أبان عن أيوب بن عائذ يحدث في الوضوء عن الدارقطني وعنه محمد بن عبد الله الزهري قال ابن القطان لا يعرف البتة قلت هو مشهور بكنيته أبو بلال من أهل الكوفة يروي عن قيس بن الربيع والكوفيين روى عنه أهل العراق قال ابن حبان في الثقات يغرب ويتفرد ولينه الحاكم أيضا وقول القطان لا يعرف البتة وهم في ذلك فإنه معروف". (لسان الميزان (6/ 14) ، والثقات (15992) (15993) (9/ 199) .
وقد ثبت عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان حافظًا للقرآن الكريم كاملًا ببعض الحروف السبعة ؛ لأدلة سيأتي ذكرها ، ويَرِدُ عليه حديث قَتَادَةَ ، قَالَ: سألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ ، رضِي الله عنهُ: مَنْ جَمَعَ القُرْآنَ علَى عِهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: أرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأنْصارِ: أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ ومُعَاذُ بنُ جَبَلٍ وزَيْدُ بنُ ثابِتٍ وأبُو زَيْدٍ رضِيَ الله عَنهُ. (11)
وهو متأَوَّلٌ كما قال الإمام العيني في شرح الحديث :
"وَلَئِن سلمنَا فَالْجَوَاب من وُجُوه: الأول: أُرِيد بِهِ الْجمع بِجَمِيعِ وجوهه ولغاته وحروفه، وقراآته الَّتِي أنزلهَا الله عز وَجل. وَأذن للْأمة فِيهَا وَخَيرهَا فِي الْقِرَاءَة بِمَا شَاءَت مِنْهَا. الثَّانِي: أُرِيد بِهِ الْأَخْذ من فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تلقينا وأخذا دون وَاسِطَة. الثَّالِث: أُرِيد، بِهِ أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة ظَهَرُوا بِهِ وانتصبوا لتلقيته وتعليمه. الرَّابِع: أُرِيد بِهِ مرسوما فِي مصحف أَو صحف. الْخَامِس: قَالَه أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: أُرِيد بِهِ أَنه لم يجمع مَا نسخ مِنْهُ وَزيد رسمه بعد تِلَاوَته إِلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة. السَّادِس: قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: أُرِيد بِهِ أَنه لم يذكرهُ أحد عَن نَفسه سوى هَؤُلَاءِ. السَّابِع: أُرِيد، بِهِ أَن من سواهُم ينْطق بإكماله خوفًا من الرِّيَاء واحتياطا على النيات. وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة أظهروه لأَنهم كَانُوا آمِنين على أنفسهم، أَو لرأي اقْتضى ذَلِك عِنْدهم. الثَّامِن: أُرِيد بِالْجمعِ الْكِتَابَة فَلَا يَنْفِي أَن يكون غَيرهم جمعه حفظا عَن ظهر قلبه، وَأما هَؤُلَاءِ فجمعوه كِتَابَة وحفظوه عَن ظهر الْقلب. التَّاسِع: أَن قصارى الْأَمر أَن أنسا قَالَ: جمع الْقُرْآن على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة، قد يكون المُرَاد: أَنِّي لَا أعلم سوى هَؤُلَاءِ، وَلَا يلْزمه أَن يعلم كل الحافظين لكتاب الله تَعَالَى. الْعَاشِر: أَن معنى قَوْله: جمع أَي: سمع لَهُ وأطاع. وَعمل بِمُوجبِه، كَمَا رُوِيَ أَحْمد فِي كتاب الزّهْد: أَن أَبَا الزَّاهِرِيَّة أَتَى أَبَا الدَّرْدَاء، فَقَالَ: إِن ابْني جمع الْقُرْآن، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر، إِنَّمَا جمع الْقُرْآن من سمع لَهُ وأطاع، لَكِن يُعَكر على هَذَا أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الصَّحَابَة كلهم كَانُوا سَامِعين مُطِيعِينَ، وَأما الَّذين جَمَعُوهُ غَيرهم، فالخلفاء الْأَرْبَعَة جمعُوا الْقُرْآن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكره أَبُو عَمْرو وَعُثْمَان بن سعيد الداني" . (12)
كما نتصل بعُمرَ - بفضل الله ورحمته - من خلال الأسانيد المتصلة في بعض القراءات ، ذكر منها إمامنا ابن الجزري - (ت 833 هـ) رحمه الله - في النشر سماع شَيْبَةُ الْقِرَاءَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (في إسناد الحرف الذي قرأ به نافع المدني - (ت 169 هـ) رحمه الله -) ، كما ذكر قراءة أَبُي الْعَالِيَةِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (في إسناد الحرف الذي قرأ به أبو عمر البصري - (ت 154 هـ) رحمه الله -) .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتاب "القراءات " له. هذه تسمية أهل القرآن من السلف على منازلهم، وتسميتهم.
وآرائهم: فمما نبدأ بذكره في كتابنا سيد المرسلين، وإمام المتقين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نزل عليه القرآن، ثم المهاجرون، والأنصار، وغيرهم من أصجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حفظ عنه منهم في القراءة شيء، وإن كان ذلك حرفاً واحداً فما فوقه قال: فمن المهاجرين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب.....". (13)
وقد تواتر عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قال : صَلَّيْنَا وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الصُّبْحَ. فَقَرَأَ فِيهَا بِسُورَةِ يُوسُفَ وَسُورَةِ (1) الْحَجِّ، قِرَاءَةً بَطِيئَةً. فَقُلْتُ: وَالَّلهِ، إِذاً، لَقَدْ كَانَ يَقُومُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ. قَالَ: أَجَلْ. صحيح متواتر ، (14)
وفي حديث الظهار الطويل لابن عباس ، قال عمر - رضي الله عنه - :
"إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ..." . (15)
ولأجل ذلك لمّا سمع هشام بن حكيم بن حِزَام في الصلاة يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأأنكر عليه وكاد يساوِرُه في صلاته - أي يثب عليه ويأخذ برأسه - قال : "فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ» فَقَرَأَ عَلَيْهِ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ» ، ثُمَّ قَالَ: «اقْرَأْ يَا عُمَرُ» فَقَرَأْتُ القِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» " . (16)
فدلت هذه الآثار الصحيحة وغيرها على اعتنائه بحفظ القرآن الكريم ، ناهيك عن قوة حفظه وملازمته النبيَ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ فِي قَوْمٍ، فَدَعَوُا اللَّهَ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ، إِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ عَلَى مَنْكِبِي، يَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، لِأَنِّي كَثِيرًا مَا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» فَإِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . (17)
حتى في غايبهما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من ذكرهما ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ التَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ "، قَالَ: " آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً فَتَبِعَهَا الرَّاعِي، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي "، قَالَ: «آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ» قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي القَوْمِ . (18)
قلت : وأما الآثار المروية المقتضية أن عمر لم يكن حافظا للقرآن الكريم كاملًا فهي دائرةٌ بين أمرين : إما ضعف الإسناد أو التأويل بالتَّوَسُّعِ في تعلُّم السور ، وهو ما يسميه العلماء بالتدبٌّر ، وهذا دأب الصحابة - رضوان الله عليهم - جميعًا الُّحفَّاظ منهم وغير الحفاظ ، ولِمَ لا وقد قرؤوا وسمعوا قول الله - تعالى - في علة إنزال القرآن العظيم : ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (ص 29) . والله أعلم
اللهم إنا نشهدك على حب نبيك - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام ، اللهم فبلغ عنا نبيك وأصحابه ، وأكرمنا بصحبتهم في جنة النعيم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فيها ثلاث قراءت متواترة ؛ قرأ الجمهور : ((فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) بالغيب فيهما ؛ لمناسبة ما قبله ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)) (57يونس ) ، وقرأ رويس عن يعقوب : ((فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تََجْمَعُونَ)) بتاء الخطاب فيهما على الالتفات ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر : ((فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تََجْمَعُونَ)) بالغيب في الأول على الالتفات وبالخطاب في الثاني لمناسبة ما قبله . وما زاد على ذلك - مما ذكره إمامنا ابن الجوزي - (ت 597 هـ) رحمه الله - وغيره - من القراءات الشاذة إما أنها تفسيرية أو مما نُسِخَ بالعرضة الأخيرة ، والله أعلم .
(2) زاد المسير (2/ 335 ، 336) .
(*) مقاييس اللغة (2/ 81 ، 82) .
(3) رواه ابن أبي داود في كتابه المصاحف، وقال الحافظ: هذا موقوف صحيح؛ الفتوحات الربانية (3 / 244)، وانظر الأذكار للنووي (1/141).
(4) أثر صحيح: رواه الدارمي في السنن (2/560)، ورواه الطبراني في الكبير (1/242)، والبيهقي في الشعب (2/368). للمزيد:
http://www.alukah.net/sharia/0/55528/
(5) صحيح رواه الترمذي (747) (3/ 113) وأحمد (21753) (36/ 85 ، 86) وغيرهما .
(6) انظر الأعمال الخيرية للمنيري (559).
(7) انظر التاج المكلل (370).
للمزيد :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=239176#post239176
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=73708
(**) انظر التزهيد في علم التجويد :
http://zdnyilma.blogspot.com/2014/08/blog-post_74.html
(8) صحيح رواه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " ( 4 / 164) .
(9) أخرجه النّحاس في "القطع والائتناف" (ص87) . وابن منده في "الإيمان" (2 / 369 - 370 رقم 207) .
والحاكم في "المستدرك" (1 / 35) . والهروي في "ذم الكلام" (2 / ل 269 / أ) . والبيهقي في "سننه" (3 / 120) في الصلاة، باب البيان أنه إنما قيل: يؤمّهم أقرؤهم. جميعهم من طريق عبد الله بن عمرو الرَّقِّي، عن زيد بن أبي أنسية، عن القاسم، به، واللفظ للنحاس، ونحوه لفظ الباقين، إلا أن الهروي لم يذكر قوله: ((وتنزل السورة ... )) إلخ. قال ابن منده: ((هذا إسناد صحيح على رسم مسلم والجماعة، إلا البخاري)) . وقال الحاكم: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علّة، ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي. تحقيق د سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد على كتاب التفسير من سنن سعيد بن منصور (1/ 208 ، 209) .
(10) أثرٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحمَدُ فِي مُسْنَدِهِ (23529) (5/410) ، الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (1/80) ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ (1953) (2/330) ، وَفِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (5072) (3/119) ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ (29929) (6/117) ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (2047) (1/743) .
(11) رواه البخاري (5003) (6/ 187) ومسلم (2465) (4/ 1914) .
(12) عمدة القاري (20/ 27) وأصل القول للعلامة أبي بكر الباقِلَّاني كما نقله عنها أيضًا الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 51) .
(13) انظر جمال القراء وكمال الإقراء للسَّخَاوي - (ت 643 هـ) رحمه الله - (1/ 501 ، 502) للمزيد :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=237280
(14) رواه مالك (271) (2/ 111) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/180) وأثبت تواتره كما تقدم ورواه غيرهما كثير وباختلافات في السور كالكهف وغيرها ، ثم روى الطحاوي - (ت 321 هـ) رحمه الله - : عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُنَوِّرُ بِالْفَجْرِ وَيُغَلِّسُ وَيُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ , وَيَقْرَأُ بِسُورَةِ يُوسُفَ وَيُونُسَ , وَقِصَارِ الْمَثَانِي وَالْمُفَصَّلِ ، - ثم قال - وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ , تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ مُسْفِرًا . شرح معاني الآثار (1076) (1/ 180) ا هـ .
(15) رواه البخاري (2468) (3/ 133) .
(16) رواه البخاري (4992) (6/ 184) .
(17) رواه البخاري (3677) (5/ 9) ومسلم (2389) (4/ 1858) .
(18) رواه البخاري (2324) (3/ 103) ومسلم (2388) (4/ 1857) .
س 52 : من أخت مصرية ، تقول : هل الحفلات التي تقام بعد ختم القرآن والحصول على إجازة جائزة ؟ وما مدى صحة الخبر الوارد عن عمر - رضي الله عنه - أنه تعلم البقرة في اثنتي عشرة سنة فلما ختمها نحر جزورا ؟
ج 52 : الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد ...
فيقول الله - تعالى - في كتابه العزيز : ((قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) (يونس 58)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يعني قريشاً. قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ يعني القرآن.
وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي: دواء لداء الجهل. وَهُدىً أي: بيان من الضلالة.
قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فيه ثمانية أقوال «1» : أحدها: أن فضل الله: الإِسلام، ورحمته: القرآن، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال قتادة وهلال بن يساف. وروي عن الحسن، ومجاهد في بعض الرواية عنهما، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني: أنّ فضل الله: القرآن، ورحمته: أن جعلهم من أهل القرآن، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال أبو سعيد الخدري، والحسن في رواية. والثالث: أن فضل الله: العلم، ورحمته: محمّد صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والرابع: أن فضل الله: الإِسلام، ورحمته: تزيينه في القلوب، قاله ابن عمر. والخامس: أن فضل الله: القرآن، ورحمته: الإِسلام، قاله الضحاك، وزيد بن أسلم، وابنه، ومقاتل. والسادس: أن فضل الله ورحمته: القرآن، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، واختاره الزجاج. والسابع: أن فضل الله:
القرآن، ورحمته: السُّنَّة، قاله خالد بن معدان. والثامن: فضل الله: التوفيق، ورحمته: العصمة، قاله ابن عيينة.
قوله تعالى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو مجلز، وقتادة، وأبو العالية، ورويس عن يعقوب: «فلتفرحوا» بالتاء. (1) وقرأ الحسن ومعاذ القارئ وأبو المتوكل مثل ذلك، إِلا أنهم كسروا اللام. وقرأ ابن مسعود وأبو عمران: «فبذلك فافرحوا» . قال ابن عباس: بذلك الفضل والرحمة. هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي مما يجمع الكفار من الأموال. وقرأ أبو جعفر وابن عامر ورويس: «تجمعون» بالتاء. وحكى ابن الأنباري أن الباء في قوله: بِفَضْلِ اللَّهِ خبر لاسم مضمر، تأويله: هذا الشفاء وهذه الموعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك التّطوّل من الله فليفرحوا. (2)
هذا ، وأما عن سؤالكم الأول فأقول - وبالله التوفيق - :
الاحتفال في اللغة الاجتماع ، قال ابن فارس - (ت 395 هـ) رحمه الله - : (حَفَلَ) الْحَاءُ وَالْفَاءُ وَاللَّامُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْجَمْعُ. يُقَالُ حَفَلَ النَّاسُ وَاحْتَفَلُوا، إِذَا اجْتَمَعُوا فِي مَجْلِسِهِمْ. وَالْمَجْلِسُ مَحْفِلٌ. وَالْمُحَفَّلَةُ: الشَّاةُ ، إلى أن قال : وَمِنَ الْبَابِ رَجُلٌ ذُو حَفْلَةٍ، إِذَا كَانَ مُبَالِغًا فِيمَا أَخَذَ فِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَتَجَمَّعُ لَهُ رَأْيًا وَفِعْلًا. وَقَدِ احْتَفَلَ لَهُمْ، إِذَا أَحْسَنَ الْقِيَامَ بِأَمْرِهِمْ. وَيُقَالُ احْتَفَلَ الْوَادِي بِالسَّيْلِ. فَأَمَّا قَوْلُهُمْ تَحَفَّلَ، إِذَا تَزَيَّنَ، فَهُوَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَجْمَعُ لِنَفْسِهِ الْمَحَاسِنَ. (*)
وهذا الاحتفال المذكور بختم القرآن الكريم بعضِه أو كُلِّه لا سيما إن حصل المسلم على إجازة بالقرآن الكريم بالأسانيد المتصلة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشروع ؛ لما يأتي :
1- تقدم في الآية الأمر بالفرح بفضل الله وبرحمته ، ومن مظاهر الفرح الاحتفال والتوسعة على الأهل ، وقد ثبت عن قتادة التابعي الجليل صاحب أنس - رضي الله عنه - قال: "كان أنس بن مالك - رضي الله عنه - إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا". وعن مجاهد قال: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن يقولون: تنزل الرحمة" (3) . أ.هـ.
2- كل الأعياد في الإسلام - في أصل فرضيتها وفي مطلق وجودها - تأتي بعد أداء أعمال صالحة ، فالجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس وهو من أفضل الأيام كما في الحديث ، وهو العيد الأسبوعي يأتي بعد أسبوع حافل بالأعمال الصالحة فرائض كانت أم نوافل ، وفي الحديث :«تُعْرَضُ الأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالخَمِيسِ، فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ» . (5) .
وعيد الفطر يأتي بعد صيام شهر رمضان ، وهو أعظم الشهور على الإطلاق ؛ لنزول القرآن فيه في أفضل ليلة : ليلة القدر ، وتضمنه أفضلَ العبادات : الصلاة والصيام ، وقد فُرِضَتِ الصلاةُ في ليلة السابع والعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة على ما جزم به النووي - (ت 676 هـ) رحمه الله - وابن حزم - (ت 456 هـ) رحمه الله - وغيرهما ، وفُرِضَ الصيامُ في شعبان من السنة الثانية للهجرة كما أن أول عيد للفطر جاء بعد انتصار بدر (17 رمضان - 2 هـ) .
وعيد الأضحى يأتي بعد أداء فريضة الحج في شهر محرم ، وفيه خير يوم طلعت فيه وعليه الشمس : يوم عرفة ، وقد فُرِضَ الحجُّ سنة تسع أو عشر على مذهب الجمهور خلافًا للشافعية القائلين بفرضه في العام السادس من الهجرة ، والله أعلم بالصواب ، كما أن أول عيد للأضحى جاء بعد طاعة إسماعيل لأبيه إبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - .
3- ثبت عن جماعة من العلماء احتفالهم بإتمام الأعمال الصالحة النافعة ، من ذلك ما نُقِلَ عن الحافظ شهاب الدين أبي الفضل ، أحمد بن علي بن محمد ، الشهير بابن حجر العسقلاني ، الشافعي - (ت 852هـ) رحمه الله - أنه استغرق في شرح البخاري "فتح الباري" أكثر من خمس وعشرين سنة ، ولما انتهى من تبييضه ومراجعته عمل وليمه عظيمة كبيرة لم يتخلف عنها من وجوه المسلمين إلا النادر بالمكان المسمى التاج والسبع ، في يوم السبت ثاني شعبان سنة اثنين واربعين وثمانمائة وصرف عليها 500 دينار. (6)
وذكر هذه القصة عن ابن حجر صديق حسن خان : وقال: "ولما وقفت على هذه الحكاية عملت وليمة على تفسيري فتح البيان". (7)
4- أعظم دليل على إتقان التلاوة الحصول على إجازة من شيخ متقن بإسناد متصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأعظم شرف أن يكون المسلم حلقة في سلسلة أعلاها رسول الله عن جبريل عن رب العزة - سبحانه وتعالى - وهذا فضل وشرف لا يعرفه في زماننا هذا إلا القليل ؛ فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . (**)
5- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ ، ...» . الحديث رواه مسلم (1017) (2/ 704) ، وفيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ» مسلم (1893) (3/ 1506) . وفي هذه الاحتفالات تذكير بفضل تلاوة القرآن الكريم وحفظه وتشجيع للطلاب لا سيما إن وعد الشيخ طلابه بجوائر قيمة كرحلات العمرة أو ما شابه ذلك ، وإني لأعرف بعض الشيوخ يقومون بذلك فجزاهم الله خيرا وأبقاهم لخدمة كتابه ونفع بهم الإسلام والمسلمين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما سؤالكم الثاني فأقول - وبالله التوفيق - ليس بدَعًا من الأمر أن ينقل عن بعض الصحابة أنهم تعلموا بعضًا من القرآن في سنوات ؛ لأنهم كانوا يعتنون بالكيف لا الكم ، وقد ثبت " أن عبد الله بنَ عمر - (ت 73 هـ) رضي الله عنه - تعلَّم سورة البقرة في أربع سنين " .(8)
وذلك لأنه بين كيف كانوا يتلقَوْنَ القرآن ؛ فقال – رضي الله عنه - :
"لقد عشنا بُرْهَةً من دهرنا وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده منها، كما تتعلمون أنتم اليوم القرآن، ولقد رأيت اليوم رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته، ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه ، وَيَنْثُرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ". اهـ. (9) .
وَقَالَ أَبُو عَبدُ الرَّحمَنِ السُلَمِي - (ت 73 هـ تقريبًا) رضي الله عنه - : " حَدَّثَنَا مَن كَانَ يُقرِؤُنَا مِن أَصحَابِ النَّبِيِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّهُم كَانُوا يَقتَرِؤُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشرَ آيَاتٍ فَلا يَأخُذُونَ فِي العَشرِ الأُخرَى حَتَى يَعلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِن العِلمِ وَالعَمَلِ قَالُوا : فَعَلِمْنَا العِلْمَ وَالعَمَلَ ". (10)
فمقتضى ذلك إما أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - حفظ القرآن الكريم كاملًا بتلقٍ مباشر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن الصحابة أثناء حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان تعلُّمُه سورةَ البقرةِ خلال أربع سنين كما في الأثر السابق عنه ، أو أنه بعد إتمامه التعلم في الختمة الأولى شرع في استكشاف بعض ما خفي من معاني سورة البقرة بتوسع ؛ فتمّ له ذلك في أربع سنين ، والله أعلم .
وأما أثر عمر بن الخطاب الفاروق - (ت 13 هـ) رضي الله عنه - أنَّه تعلَّم سورة البقرة في ثنتَيْ عشرةَ سنةً ، ولمَّا ختمها نحر جزورًا فهو أثر ضعيف ، رواه البيهقي في شعب الإيمان (1805) (3/ 346) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 286) ، وضعفه ابن كثير في مسند الفاروق (2/571) قال [ فيه ] أبو بلال الأشعري ضعفه الدارقطني ا هـ ، وأقره على ذلك الذهبي في الميزان (4/ 507) وابن حجر في اللسان (7/ 22) وقال : "مرداس" بن محمد بن الحارث بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري عن محمد بن أبان عن أيوب بن عائذ يحدث في الوضوء عن الدارقطني وعنه محمد بن عبد الله الزهري قال ابن القطان لا يعرف البتة قلت هو مشهور بكنيته أبو بلال من أهل الكوفة يروي عن قيس بن الربيع والكوفيين روى عنه أهل العراق قال ابن حبان في الثقات يغرب ويتفرد ولينه الحاكم أيضا وقول القطان لا يعرف البتة وهم في ذلك فإنه معروف". (لسان الميزان (6/ 14) ، والثقات (15992) (15993) (9/ 199) .
وقد ثبت عن عمر - رضي الله عنه - أنه كان حافظًا للقرآن الكريم كاملًا ببعض الحروف السبعة ؛ لأدلة سيأتي ذكرها ، ويَرِدُ عليه حديث قَتَادَةَ ، قَالَ: سألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ ، رضِي الله عنهُ: مَنْ جَمَعَ القُرْآنَ علَى عِهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: أرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنَ الأنْصارِ: أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ ومُعَاذُ بنُ جَبَلٍ وزَيْدُ بنُ ثابِتٍ وأبُو زَيْدٍ رضِيَ الله عَنهُ. (11)
وهو متأَوَّلٌ كما قال الإمام العيني في شرح الحديث :
"وَلَئِن سلمنَا فَالْجَوَاب من وُجُوه: الأول: أُرِيد بِهِ الْجمع بِجَمِيعِ وجوهه ولغاته وحروفه، وقراآته الَّتِي أنزلهَا الله عز وَجل. وَأذن للْأمة فِيهَا وَخَيرهَا فِي الْقِرَاءَة بِمَا شَاءَت مِنْهَا. الثَّانِي: أُرِيد بِهِ الْأَخْذ من فِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تلقينا وأخذا دون وَاسِطَة. الثَّالِث: أُرِيد، بِهِ أَن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة ظَهَرُوا بِهِ وانتصبوا لتلقيته وتعليمه. الرَّابِع: أُرِيد بِهِ مرسوما فِي مصحف أَو صحف. الْخَامِس: قَالَه أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: أُرِيد بِهِ أَنه لم يجمع مَا نسخ مِنْهُ وَزيد رسمه بعد تِلَاوَته إِلَّا هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة. السَّادِس: قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: أُرِيد بِهِ أَنه لم يذكرهُ أحد عَن نَفسه سوى هَؤُلَاءِ. السَّابِع: أُرِيد، بِهِ أَن من سواهُم ينْطق بإكماله خوفًا من الرِّيَاء واحتياطا على النيات. وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة أظهروه لأَنهم كَانُوا آمِنين على أنفسهم، أَو لرأي اقْتضى ذَلِك عِنْدهم. الثَّامِن: أُرِيد بِالْجمعِ الْكِتَابَة فَلَا يَنْفِي أَن يكون غَيرهم جمعه حفظا عَن ظهر قلبه، وَأما هَؤُلَاءِ فجمعوه كِتَابَة وحفظوه عَن ظهر الْقلب. التَّاسِع: أَن قصارى الْأَمر أَن أنسا قَالَ: جمع الْقُرْآن على عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعَة، قد يكون المُرَاد: أَنِّي لَا أعلم سوى هَؤُلَاءِ، وَلَا يلْزمه أَن يعلم كل الحافظين لكتاب الله تَعَالَى. الْعَاشِر: أَن معنى قَوْله: جمع أَي: سمع لَهُ وأطاع. وَعمل بِمُوجبِه، كَمَا رُوِيَ أَحْمد فِي كتاب الزّهْد: أَن أَبَا الزَّاهِرِيَّة أَتَى أَبَا الدَّرْدَاء، فَقَالَ: إِن ابْني جمع الْقُرْآن، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِر، إِنَّمَا جمع الْقُرْآن من سمع لَهُ وأطاع، لَكِن يُعَكر على هَذَا أَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَغَيرهم من الصَّحَابَة كلهم كَانُوا سَامِعين مُطِيعِينَ، وَأما الَّذين جَمَعُوهُ غَيرهم، فالخلفاء الْأَرْبَعَة جمعُوا الْقُرْآن على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ذكره أَبُو عَمْرو وَعُثْمَان بن سعيد الداني" . (12)
كما نتصل بعُمرَ - بفضل الله ورحمته - من خلال الأسانيد المتصلة في بعض القراءات ، ذكر منها إمامنا ابن الجزري - (ت 833 هـ) رحمه الله - في النشر سماع شَيْبَةُ الْقِرَاءَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (في إسناد الحرف الذي قرأ به نافع المدني - (ت 169 هـ) رحمه الله -) ، كما ذكر قراءة أَبُي الْعَالِيَةِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (في إسناد الحرف الذي قرأ به أبو عمر البصري - (ت 154 هـ) رحمه الله -) .
قال أبو عبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتاب "القراءات " له. هذه تسمية أهل القرآن من السلف على منازلهم، وتسميتهم.
وآرائهم: فمما نبدأ بذكره في كتابنا سيد المرسلين، وإمام المتقين محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نزل عليه القرآن، ثم المهاجرون، والأنصار، وغيرهم من أصجاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حفظ عنه منهم في القراءة شيء، وإن كان ذلك حرفاً واحداً فما فوقه قال: فمن المهاجرين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب.....". (13)
وقد تواتر عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ قال : صَلَّيْنَا وَرَاءَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الصُّبْحَ. فَقَرَأَ فِيهَا بِسُورَةِ يُوسُفَ وَسُورَةِ (1) الْحَجِّ، قِرَاءَةً بَطِيئَةً. فَقُلْتُ: وَالَّلهِ، إِذاً، لَقَدْ كَانَ يَقُومُ حِينَ يَطْلُعُ الْفَجْرُ. قَالَ: أَجَلْ. صحيح متواتر ، (14)
وفي حديث الظهار الطويل لابن عباس ، قال عمر - رضي الله عنه - :
"إِنِّي كُنْتُ وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي المَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الأَمْرِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَهُ..." . (15)
ولأجل ذلك لمّا سمع هشام بن حكيم بن حِزَام في الصلاة يقرأ سورة الفرقان على غير ما قرأأنكر عليه وكاد يساوِرُه في صلاته - أي يثب عليه ويأخذ برأسه - قال : "فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ الفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ» فَقَرَأَ عَلَيْهِ القِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ» ، ثُمَّ قَالَ: «اقْرَأْ يَا عُمَرُ» فَقَرَأْتُ القِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا القُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» " . (16)
فدلت هذه الآثار الصحيحة وغيرها على اعتنائه بحفظ القرآن الكريم ، ناهيك عن قوة حفظه وملازمته النبيَ - صلى الله عليه وسلم - ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: إِنِّي لَوَاقِفٌ فِي قَوْمٍ، فَدَعَوُا اللَّهَ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، وَقَدْ وُضِعَ عَلَى سَرِيرِهِ، إِذَا رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي قَدْ وَضَعَ مِرْفَقَهُ عَلَى مَنْكِبِي، يَقُولُ: رَحِمَكَ اللَّهُ، إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ، لِأَنِّي كَثِيرًا مَا كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُنْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَفَعَلْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَانْطَلَقْتُ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» فَإِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ مَعَهُمَا، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ . (17)
حتى في غايبهما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من ذكرهما ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " بَيْنَمَا رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى بَقَرَةٍ التَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: لَمْ أُخْلَقْ لِهَذَا، خُلِقْتُ لِلْحِرَاثَةِ "، قَالَ: " آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأَخَذَ الذِّئْبُ شَاةً فَتَبِعَهَا الرَّاعِي، فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: مَنْ لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي "، قَالَ: «آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ» قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَمَا هُمَا يَوْمَئِذٍ فِي القَوْمِ . (18)
قلت : وأما الآثار المروية المقتضية أن عمر لم يكن حافظا للقرآن الكريم كاملًا فهي دائرةٌ بين أمرين : إما ضعف الإسناد أو التأويل بالتَّوَسُّعِ في تعلُّم السور ، وهو ما يسميه العلماء بالتدبٌّر ، وهذا دأب الصحابة - رضوان الله عليهم - جميعًا الُّحفَّاظ منهم وغير الحفاظ ، ولِمَ لا وقد قرؤوا وسمعوا قول الله - تعالى - في علة إنزال القرآن العظيم : ((كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (ص 29) . والله أعلم
اللهم إنا نشهدك على حب نبيك - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام ، اللهم فبلغ عنا نبيك وأصحابه ، وأكرمنا بصحبتهم في جنة النعيم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلِّ اللهم وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فيها ثلاث قراءت متواترة ؛ قرأ الجمهور : ((فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)) بالغيب فيهما ؛ لمناسبة ما قبله ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)) (57يونس ) ، وقرأ رويس عن يعقوب : ((فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تََجْمَعُونَ)) بتاء الخطاب فيهما على الالتفات ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر : ((فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تََجْمَعُونَ)) بالغيب في الأول على الالتفات وبالخطاب في الثاني لمناسبة ما قبله . وما زاد على ذلك - مما ذكره إمامنا ابن الجوزي - (ت 597 هـ) رحمه الله - وغيره - من القراءات الشاذة إما أنها تفسيرية أو مما نُسِخَ بالعرضة الأخيرة ، والله أعلم .
(2) زاد المسير (2/ 335 ، 336) .
(*) مقاييس اللغة (2/ 81 ، 82) .
(3) رواه ابن أبي داود في كتابه المصاحف، وقال الحافظ: هذا موقوف صحيح؛ الفتوحات الربانية (3 / 244)، وانظر الأذكار للنووي (1/141).
(4) أثر صحيح: رواه الدارمي في السنن (2/560)، ورواه الطبراني في الكبير (1/242)، والبيهقي في الشعب (2/368). للمزيد:
http://www.alukah.net/sharia/0/55528/
(5) صحيح رواه الترمذي (747) (3/ 113) وأحمد (21753) (36/ 85 ، 86) وغيرهما .
(6) انظر الأعمال الخيرية للمنيري (559).
(7) انظر التاج المكلل (370).
للمزيد :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=239176#post239176
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=73708
(**) انظر التزهيد في علم التجويد :
http://zdnyilma.blogspot.com/2014/08/blog-post_74.html
(8) صحيح رواه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " ( 4 / 164) .
(9) أخرجه النّحاس في "القطع والائتناف" (ص87) . وابن منده في "الإيمان" (2 / 369 - 370 رقم 207) .
والحاكم في "المستدرك" (1 / 35) . والهروي في "ذم الكلام" (2 / ل 269 / أ) . والبيهقي في "سننه" (3 / 120) في الصلاة، باب البيان أنه إنما قيل: يؤمّهم أقرؤهم. جميعهم من طريق عبد الله بن عمرو الرَّقِّي، عن زيد بن أبي أنسية، عن القاسم، به، واللفظ للنحاس، ونحوه لفظ الباقين، إلا أن الهروي لم يذكر قوله: ((وتنزل السورة ... )) إلخ. قال ابن منده: ((هذا إسناد صحيح على رسم مسلم والجماعة، إلا البخاري)) . وقال الحاكم: ((هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علّة، ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي. تحقيق د سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد على كتاب التفسير من سنن سعيد بن منصور (1/ 208 ، 209) .
(10) أثرٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَحمَدُ فِي مُسْنَدِهِ (23529) (5/410) ، الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (1/80) ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ (1953) (2/330) ، وَفِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (5072) (3/119) ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ (29929) (6/117) ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ (2047) (1/743) .
(11) رواه البخاري (5003) (6/ 187) ومسلم (2465) (4/ 1914) .
(12) عمدة القاري (20/ 27) وأصل القول للعلامة أبي بكر الباقِلَّاني كما نقله عنها أيضًا الحافظ ابن حجر في الفتح (9/ 51) .
(13) انظر جمال القراء وكمال الإقراء للسَّخَاوي - (ت 643 هـ) رحمه الله - (1/ 501 ، 502) للمزيد :
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=237280
(14) رواه مالك (271) (2/ 111) والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/180) وأثبت تواتره كما تقدم ورواه غيرهما كثير وباختلافات في السور كالكهف وغيرها ، ثم روى الطحاوي - (ت 321 هـ) رحمه الله - : عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرِّ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُنَوِّرُ بِالْفَجْرِ وَيُغَلِّسُ وَيُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ , وَيَقْرَأُ بِسُورَةِ يُوسُفَ وَيُونُسَ , وَقِصَارِ الْمَثَانِي وَالْمُفَصَّلِ ، - ثم قال - وَقَدْ رُوِيَتْ عَنْهُ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ , تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاتِهِ مُسْفِرًا . شرح معاني الآثار (1076) (1/ 180) ا هـ .
(15) رواه البخاري (2468) (3/ 133) .
(16) رواه البخاري (4992) (6/ 184) .
(17) رواه البخاري (3677) (5/ 9) ومسلم (2389) (4/ 1858) .
(18) رواه البخاري (2324) (3/ 103) ومسلم (2388) (4/ 1857) .
ليست هناك تعليقات: